المسألة الثالثة عشرة : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة  ، أو قذف واحدا ، مرات متعددة . وقد قدمنا خلاف أهل العلم ، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة في الكلام على آيات " الحج " 0 
قال  ابن قدامة  في " المغني " ، في شرحه لقول الخرقي    : وإذا قذف الجماعة بكلمة واحدة ، فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم ، ما نصه : وبهذا قال :  طاوس   والشعبي  ،  والزهري  ، والنخعي  ، وقتادة  ، وحماد  ، ومالك  ،  والثوري  ، وأبو حنيفة  وصاحباه ،  وابن أبي ليلى  وإسحاق  ، وقال الحسن  ،  وأبو ثور  ، وابن المنذر    : لكل واحد حد كامل ، وعن أحمد  مثل ذلك ،  وللشافعي  قولان كالروايتين ، ووجه هذا أنه قذف كل واحد منهم ، فلزمه له حد كامل ; كما لو قذفهم بكلمات ، ولنا قول الله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة  ولم يفرق بين قذف واحد أو جماعة ; ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة ، فلم يحدهم عمر  إلا حدا واحدا ، ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحدا ، ولأن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على   [ ص: 444 ] المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف . 
وتزول المعرة ، فوجب أن يكتفي به بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفا منفردا ، فإن كذبه في قذفه لا يلزم منه كذبه في آخر ، ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحده للآخر ، فإذا ثبت هذا ، فإنهم إن طلبوه جملة حد لهم ، وإن طلبه واحد أقيم الحد ; لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل ، فأيهم طالب به استوفى ، وسقط فلم يكن لغيره الطلب به كحق المرأة على أوليائها في تزويجها ، إذا قام به واحد سقط عن الباقين ، وإن أسقطه أحدهم فلغيره المطالبة به واستيفاؤه ; لأن المعرة لم تزل عنه بعفو صاحبه ، وليس للعافي الطلب به ، لأنه قد أسقط حقه . 
وروي عن أحمد    - رحمه الله - رواية أخرى : أنهم إن طلبوه دفعة واحدة فحد واحد ، وكذلك إن طلبوه واحدا بعد واحد إلا أنه لم يقم حتى طلبه الكل فحد واحد ، وإن طلبه واحد فأقيم له ، ثم طلبه آخر أقيم له ، وكذلك جميعهم وهذا قول عروة    ; لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه ، وقع استيفاؤه لجميعهم ، وإذا طلبه واحد منفردا كان استيفاؤه له وحده ، فلم يسقط حق الباقين بغير استيفائهم ( في ) إسقاطهم ، وإن قذف الجماعة بكلمات فلكل واحد حد ، وبهذا قال عطاء  ،  والشعبي  ، وقتادة  ،  وابن أبي ليلى  ، وأبو حنيفة   والشافعي  ، وقال حماد  ومالك    : لا يجب إلا حد واحد ، لأنها جناية توجب حدا ، فإذا تكررت كفى حد واحد ، كما لو سرق من جماعة أو زنى بنساء ، أو شرب أنواعا من المسكر ، ولنا أنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون والقصاص ، وفارق ما قاسوا عليه فإنه حق لله تعالى ، إلى أن قالا : وإن قذف رجلا مرات  فلم يحد ، فحد واحد رواية واحدة ، سواء قذفه بزنا واحد أو بزنيات ، وإن قذفه فحد ثم أعاد قذفه نظرت ، فإن قذفه بذلك الزنا الذي حد من أجله لم يعد عليه الحد في قول عامة أهل العلم ، وحكي عن ابن القاسم    : أنه أوجب حدا ثانيا ، وهذا يخالف إجماع الصحابة ، فإن أبا بكرة  لما حد بقذف المغيرة  أعاد قذفه فلم يروا عليه حدا ثانيا ، فروى الأثرم  بإسناده عن ظبيان بن عمارة  ، قال : شهد على  المغيرة بن شعبة  ثلاثة نفر أنه زان ، فبلغ ذلك عمر  فكبر عليه ، وقال : شاط ثلاثة أرباع  المغيرة بن شعبة  ، وجاء زياد  ، فقال : ما عندك ؟ فلم يثبت فأمر بجلدهم فجلدوا ، وقال : شهود زور ، فقال أبو بكرة    : أليس ترضى إن أتاك رجل عندك يشهد رجمه ؟ قال : نعم ، والذي نفسي بيده ، فقال أبو بكرة    : وأنا أشهد أنه زان ، فأراد أن يعيد عليه الحد ، فقال علي    : يا أمير المؤمنين إنك إن أعدت عليه الحد ، أوجبت عليه الرجم ، وفي حديث آخر : فلا يعاد فيه فرية جلد مرتين   . قال الأثرم    : قلت لأبي عبد الله  ، قول علي    : إن جلدته فارجم صاحبك ، قال : كأنه جعل   [ ص: 445 ] شهادته شهادة رجلين ، قال أبو عبد الله    : وكنت أنا أفسره على هذا حتى رأيته في هذا الحديث فأعجبني ، ثم قال يقول : إذا جلدته ثانية فكأنك جعلته شاهدا آخر ، فأما إن حد له وقذفه بزنا ثان  نظرت ، فإن قذفه بعد طول الفصل فحد ثان ; لأنه لا يسقط حرمة المقذوف بالنسبة إلى القاذف أبدا بحيث يمكن من قذفه بكل حال ، وإن قذفه عقيب حده ففيه روايتان : 
إحداهما : يحد أيضا ; لأنه قذف لم يظهر كذبه فيه بحد ، فيلزم فيه حد كما لو طال الفصل ، ولأن سائر أسباب الحد إذا تكررت بعد أن حد للأول ثبت للثاني حكمه ، كالزنا والسرقة وغيرهما من الأسباب . 
والثانية : لا يحد ; لأنه قد حد له لمرة فلم يحد له بالقذف عقبه ، كما لو قذفه بالزنا الأول ، انتهى من " المغني " ، وقد رأيت نقله لأقوال أهل العلم ، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات أو قذف واحدا مرات . 
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه المسائل لم نعلم فيها نصا من كتاب ولا سنة . 
والذي يظهر لنا فيه ، والله تعالى أعلم : أن من قذف جماعة بكلمة واحدة فعليه حد واحد ، لأنه يظهر به كذبه على الجميع وتزول به المعرة عن الجميع ، ويحصل شفاء الغيظ بحده للجميع . 
والأظهر عندنا فيمن رمى جماعة بكلمات أنه يتعدد عليه الحد ، بعدد الكلمات التي قذف بها ; لأنه قذف كل واحد قذفا مستقلا لم يشاركه فيه غيره وحده لبعضهم لا يظهر به كذبه على الثاني الذي قذفه بلفظ آخر ، ولا تزول به عنه المعرة . وهذا إن كان قذف كل واحد منهم قذفا مفردا لم يجمع معه غيره لا ينبغي أن يختلف فيه ، والأظهر أنه إن قذفهم بعبارات مختلفة تكرر عليه الحد بعددهم ، كما اختاره صاحب " المغني " . 
والأظهر عندنا أنه إن كرر القذف لرجل واحد قبل إقامة الحد عليه يكفي فيه حد واحد ، وأنه إن رماه بعد حده للقذف الأول بعد طول حد أيضا ، وإن رماه قرب زمن حده بعين الزنا الذي حد له لا يعاد عليه الحد ; كما حكاه صاحب المغني في قصة أبي بكرة   والمغيرة بن شعبة  ، وإن كان القذف الثاني غير الأول ، كأن قال في الأول : زنيت بامرأة   [ ص: 446 ] بيضاء ، وفي الثاني قال : بامرأة سوداء ، فالظاهر تكرره ، والعلم عند الله تعالى . 
وعن مالك    - رحمه الله - في " المدونة " : إن قذف رجلا فلما ضرب أسواطا قذفه ثانيا أو آخر  ابتدئ الحد عليه ثمانين من حين يقذفه ، ولا يعتد بما مضى من السياط . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					