[ ص: 155 ]    [  الالتفات      ]  
الالتفات : نقل الكلام من أسلوب إلى آخر ، أعني : من المتكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها بعد التعبير بالأول . وهذا هو المشهور . وقال  السكاكي     : إما ذلك أو التعبير بأحدهما فيما حقه التعبير بغيره .  
وله فوائد :  
منها تطرية الكلام ، وصيانة السمع عن الضجر والملال ، لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات ، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد ، وهذه فائدته العامة . ويختص كل موضع بنكت ولطائف باختلاف محله كما سنبينه .  
مثاله - من التكلم إلى الخطاب - : ووجهه حث السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه ، وأعطاه فضل عناية تخصيص بالمواجهة ، قوله تعالى :  وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون      [ يس : 22 ] ، والأصل : ( وإليه أرجع ) ، فالتفت من التكلم إلى الخطاب ، ونكتته : أنه أخرج الكلام في معرض مناصحته لنفسه وهو يريد نصح قومه ، تلطفا وإعلاما أنه يريد لهم ما يريد لنفسه ، ثم التفت إليهم لكونه في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله تعالى . كذا جعلوا هذه الآية من الالتفات ، وفيه نظر ؛ لأنه إنما يكون منه إذا قصد الإخبار عن نفسه في كلتا الجملتين ، وهنا ليس كذلك لجواز أن يريد بقوله ( ترجعون ) المخاطبين لا نفسه .  
وأجيب : بأنه لو كان المراد ذلك لما صح الاستفهام الإنكاري ؛ لأن رجوع العبد إلى      [ ص: 156 ] مولاه ليس بمستلزم أن يعيده غير ذلك الراجع . فالمعنى : كيف لا أعبد من إليه رجوعي ، وإنما عدل عن : ( وإليه أرجع ) إلى :  وإليه ترجعون   ؛ لأنه داخل فيهم ، ومع ذلك أفاد فائدة حسنة ، وهي تنبيههم على أنه مثلهم في وجوب عبادة من إليه الرجوع .  
من أمثلته أيضا قوله تعالى :  وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة      [ الأنعام : 71 ، 72 ] . ومثاله - من التكلم إلى الغيبة - : ووجهه أن يفهم السامع أن هذا نمط المتكلم وقصده من السامع ؛ حضر أو غاب ، وأنه ليس في كلامه ممن يتلون ويتوجه ، ويبدي في الغيبة خلاف ما يبديه في الحضور - قوله تعالى :  إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله      [ الفتح : 1 ، 2 ] ، والأصل : ( لنغفر لك ) .  إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك      [ الكوثر : 1 ، 2 ] ، والأصل : ( لنا ) .  أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك      [ الدخان : 158 ] ، والأصل : ( منا ) .  إني رسول الله إليكم جميعا      [ الأعراف : 158 ] ، إلى قوله :  فآمنوا بالله ورسوله      [ الأعراف : 158 ] ، والأصل : ( وبي ) ، وعدل عنه لنكتتين : إحداهما دفع التهمة عن نفسه بالعصبية لها ، والأخرى : تنبيههم على استحقاقه الاتباع بما اتصف به من الصفات المذكورة والخصائص المتلوة .  
ومثاله من الخطاب إلى التكلم لم يقع في القرآن ، ومثل له بعضهم بقوله :  فاقض ما أنت قاض      [ طه : 72 ] ، ثم قال :  إنا آمنا بربنا      [ طه : 73 ] ، وهذا المثال لا يصح ؛ لأن شرط الالتفات أن يكون المراد به واحدا .  
ومثاله من الخطاب إلى الغيبة :  حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم      [ يونس : 22 ] ، والأصل : ( بكم ) ، ونكتة العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم ، التعجب من كفرهم وفعلهم ؛ إذ لو استمر على خطابهم لفاتت تلك الفائدة .  
وقيل : لأن الخطاب أولا كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم بدليل :  هو الذي يسيركم في البر والبحر      [ يونس : 22 ] ، فلو كان ( وجرين بكم ) للزم الذم للجميع ، فالتفت عن الأول      [ ص: 157 ] للإشارة إلى اختصاصه بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية ، عدولا من الخطاب العام إلى الخاص .  
قلت : ورأيت عن بعض السلف في توجيهه عكس ذلك ؛ وهو أن الخطاب أوله خاص وآخره عام . فأخرج   ابن أبي حاتم ،  عن   عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،  أنه قال في قوله :  حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم      [ يونس : 22 ] ، قال : ذكر الحديث عنهم ثم حدث عن غيرهم ، ولم يقل : ( وجرين بكم ) ؛ لأنه قصد أن يجمعهم وغيرهم ، وجرين بهؤلاء وغيرهم من الخلق . هذه عبارته ، فلله در السلف ما كان أوقفهم على المعاني اللطيفة التي يدأب المتأخرون فيها زمانا طويلا ، ويفنون فيها أعمارهم ، ثم غايتهم أن يحوموا حول الحمى .  
ومما ذكر في توجيهه أيضا أنهم وقت الركوب حضروا ، إلا أنهم خافوا الهلاك وغلبة الرياح فخاطبهم خطاب الحاضرين ، ثم لما جرت الرياح بما تشتهي السفن ، وأمنوا الهلاك لم يبق حضورهم كما كان ، على عادة الإنسان أنه إذا أمن غاب قلبه عن ربه ، فلما غابوا ذكرهم الله بصيغة الغيبة ، وهذه إشارة صوفية .  
ومن أمثلته أيضا :  وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون      [ الروم : 39 ] ،  وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون      [ الحجرات : 7 ] ،  ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون يطاف عليهم   ، والأصل : ( عليكم ) ، ثم قال :  وأنتم فيها خالدون      [ الزخرف : 70 ، 71 ] ، فكرر الالتفات .  
ومثاله من الغيبة إلى التكلم :  والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه      [ فاطر : 9 ] ،  وأوحى في كل سماء أمرها وزينا      [ فصلت : 12 ] ،  سبحان الذي أسرى بعبده   إلى قوله :  باركنا حوله لنريه من آياتنا   ، ثم التفت ثانيا إلى الغيبة ، فقال :  إنه هو السميع البصير      [ الإسراء : 1 ] ، وعلى قراءة  الحسن     : ( ليريه ) بالغيبة يكون التفاتا ثانيا من ( باركنا ) ، وفي ( آياتنا ) التفات ثالث ، وفي ( إنه ) التفات رابع .  
 [ ص: 158 ] قال   الزمخشري     : وفائدته في هذه الآيات وأمثالها التنبيه على التخصيص بالقدرة ، وأنه لا يدخل تحت قدرة أحد .  
ومثاله - من الغيبة إلى الخطاب - :  وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا      [ مريم : 88 ، 89 ] ،  ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم      [ الأنعام : 6 ]  وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء      [ الإنسان : 21 ، 22 ] ،  إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك      [ الأحزاب : 50 ] .  
ومن محاسنه ما وقع في سورة الفاتحة : فإن العبد إذا ذكر الله وحده ثم ذكر صفاته ألقى كل صفة منها تبعث على شدة الإقبال ، وآخرها :  مالك يوم الدين   المفيد أنه مالك الأمر كله في يوم الجزاء ، يجد من نفسه حاملا لا يقدر على دفعه على خطاب من هذه صفاته بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات .  
وقيل : إنما اختير لفظ الغيبة للحمد ، وللعبادة الخطاب ، للإشارة إلى أن الحمد دون العبادة في الرتبة ؛ لأنك تحمد نظيره ولا تعبده ، فاستعمل لفظ ( الحمد ) مع الغيبة ، ولفظ ( العبادة ) مع الخطاب ، لينسب إلى العظيم حال المخاطبة والمواجهة ما هو أعلى رتبة ، وذلك على طريقة التأدب .  
وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة فقال :  الذين أنعمت عليهم   مصرحا بذكر المنعم وإسناد الإنعام إليه لفظا ، ولم يقل : ( صراط المنعم عليهم ) ، فلما صار إلى ذكر الغضب ذوى عنه لفظه ، فلم ينسبه إليه لفظا ، وجاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب فلم يقل : ( غير الذين غضبت عليهم ) ؛ تفاديا عن نسبة الغضب إليه في اللفظ حال المواجهة .  
وقيل : لأنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، وأجرى عليه الصفات العظيمة من كونه ربا للعالمين ورحمانا ورحيما ومالكا ليوم الدين ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن ، حقيق بأن يكون معبودا دون غيره ، مستعانا به ، فخوطب بذلك لتميزه بالصفات المذكورة تعظيما لشأنه ، حتى كأنه قيل : إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة لا غيرك .  
قيل : ومن لطائفه التنبيه عن أن مبتدأ الخلق الغيبة منهم عنه سبحانه وتعالى ، وقصورهم عن محاضرته ومخاطبته ، وقيام حجاب العظمة عليهم ، فإذا عرفوه بما هو لهم ، وتوسلوا للقرب بالثناء عليه ، وأقروا بالمحامد له ، تعبدوا له بما يليق بهم ، وتأهلوا لمخاطبته      [ ص: 159 ] ومناجاته ، فقالوا :  إياك نعبد وإياك نستعين   
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					