( الفصل الرابع ) 
في صفة التيمم 
فأول ذلك : النية  واجبة فيه خلافا   للأوزاعي  ، وقد تقدمت مباحثها في الوضوء ، فلنكتف بما هناك ، وينوي استباحة الصلاة سواء كان جنبا ، أو محدثا الحدث الأصغر ، فلو اجتمعا ، وكان ناسيا للجنابة ، فروايتان : إحداهما عدم الإجزاء ; لأن التيمم حينئذ يكون بدلا عن الوضوء ، وهو بعض أعضاء الجنابة ، والبدل عن البعض لا ينوب مناب البدل عن الكل ، وهو التيمم عن الجنابة ، والأخرى يجزيه ; لأن المقصود ارتفاع المنع من الصلاة ، وهو واحد ، فلا يضر اختلاف أسبابه ، وقد صرح في الكتاب بنيابة الوضوء عن الجنابة في الجبيرة إذا مسحها ، وهو جنب ، ثم برئت ، وغسلها بنية الوضوء ، ونص  اللخمي  على النيابة مطلقا ، والفرق بين الوضوء والتيمم على الأول أن التيمم بدل عن الوضوء الذي هو بعض الجنابة ، والوضوء أصل في نفسه ، وإذا نوى استباحة الفرض استباح النفل ; لأن الأدنى يتبع الأعلى في نظر الشرع ، ولأنه ورد في الحديث أن الفرائض يوم القيامة تكمل بالنوافل ، فكانت كالأجزاء لها ، ولا يصلي ركعتي الفجر بتيمم الصبح    ; لأن الفرض لا يكون   [ ص: 352 ] تبعا للنفل ، وقيل : يصلي لحصول الاستباحة ؛ رواه   محمد بن يحيى  ، ولو نوى فرضين صح ، ولا يصلي أكثر من فرض واحد على المشهور ، ثم يستعمل الصعيد . 
قال في الكتاب : يضرب الأرض بيديه جميعا ضربة واحدة ، فإن تعلق بهما شيء نفضه نفضا خفيفا ، ومسح بهما وجهه ، ثم يضرب أخرى لليدين ، ويضع اليسرى على اليمنى فيمرها من فوق الكف إلى المرفق ، ومن باطن المرفق إلى الكوع ، ويفعل باليسرى كذلك . . قال   ابن شاس     : وأجاز الشيخ  أبو الحسن  ،  وعبد الحق  مسح كف اليمنى قبل الشروع في اليسرى ، وروى  ابن حبيب  تركها حتى يصل كوع الأخرى ، ويمسح الكوعين ، واختاره ، والقولان مؤولان من الكتاب . قال صاحب الطراز : والثاني ظاهر الكتاب ، ووجهه أن كفه اليمنى كما تمسح ذراعه ، فكذلك ذراعه يمسح كفه ، والتكرار في التيمم  غير مطلوب ، فلا يؤمر بمسح كفه بكفه ، ولأنه يذهب بما في كفه اليمين من التراب ، ووجه الأول أن الأصل أن لا يشرع في عضو إلا بعد كمال ما قبله ، وما نقله صاحب الرسالة : إذا وصل الكوع مسح بباطن إبهام اليسرى ظاهر إبهامه اليمنى ، وكذلك في اليسرى . قال صاحب الطراز : قال   ابن عبد الحكم     : ليس في ذلك حد كالوضوء ، وهذه الصفة ، وإن لم ترد ، فليست تحكما بل لما علم الفقهاء أن الإيعاب مطلوب ، والصعيد ليس يعم بسيلانه كالماء اختاروا هذه الصفة لإفضائها لمقصود الشارع ، وفعل الوسائل لتحصيل المقاصد من قواعد الشرع وعادته . 
قال  مالك  في العتبية : يجزيه ضربة إذا اقتصر عليها . قال  ابن القاسم     : لا يعيد في وقت ، ولا غيره ، وعند  ابن حبيب  يعيد في الوقت ، وقال  ابن نافع   والشافعي  ،  وأبو حنيفة     : يعيد مطلقا . 
لنا ما في  مسلم  ،   والبخاري     : أن   عمار بن ياسر  قال   لعمر بن الخطاب  رضي   [ ص: 353 ] الله عنهما : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية ، فأجنبنا ، فلم نجد الماء ، فأما أنت ، فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت في التراب كما تتمرغ الدابة وصليت ، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنما كان يكفيك ضربة للوجه ، وضربة للكفين ، فقال له : اتق الله يا  عمار  ، فقال  عمار     : إن شئت يا أمير المؤمنين لم أحدث به ، فقال : بل نوليك من ذلك ما توليت ، ويروى إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثم تنفخ ، ثم تمسح بهما وجهك ، وكفيك ، ويروى أن تقول هكذا ، وضرب بيديه إلى الأرض ، ونفض يديه ، فمسح وجهه ، وكفيه . 
وقد بينا أنه لا يجب نقل شيء من الأرض ، فلا معنى للإعادة ، وإنما ضرب أولا ليخرج من العهدة ، ولأن تكرار التيمم كترك تكرار الوضوء لا تعاد لأجله الصلاة في الوقت ، ولا في غيره . 
وقال أيضا في الكتاب : إن تيمم إلى الكوعين  أعاد التيمم ، والصلاة في الوقت ، فإن خرج الوقت أعاد التيمم فقط . قال صاحب الطراز : يعيد عند  ابن نافع  أبدا ، وكذلك عند أبي ح ، و ش لإطلاق اليد في التيمم ، وتقييدها في الوضوء ، والمطلق يحمل على المقيد ، والقياس على الوجه . 
حجة المذهب أن اليد أطلقت في السرقة ، فحملت على الكوع ، فكذلك ها هنا ، ولأن اليد لو لم تصدق على الكوعين لما قيل في الوضوء : إلى المرافق ; لأن المغيا يجب أن تكمل حقيقته قبل الغاية ، ولولا ذلك لكانت إلا للاستثناء مكان إلى لإخراج العضدين ، ويمنع ها هنا حمل المطلق على المقيد لاختلاف الحكم ; لأن أحدهما وضوء ، والآخر تيمم . قاعدة أصولية : المطلق مع المقيد على أربع أقسام : تارة يختلف الحكم والسبب  كالوضوء والسرقة ، فلا حمل إجماعا ، وتارة يتحدان  كما لو ذكر الرقبة في الظهار مرتين مطلقة ، ومقيدة بالإيمان ، فإنه يحمل المطلق على المقيد ، وتارة يختلف السبب ، ويتحد الحكم  كالرقبة في القتل مقيدة بالإيمان ، ومطلقة في الظهار ، وفي   [ ص: 354 ] الحمل مذهبان ، وتارة يختلف الحكم ، ويتحد السبب  كالوضوء ، والتيمم ، فالسبب واحد ، وهو الحدث ، والحكم مختلف ، وهو الوضوء والتيمم ، وفي الحمل مذهبان ، فعلى هذه القاعدة تتخرج فروع كثيرة . 
ويظهر أن إلحاق التيمم بالوضوء أولى من إلحاقه بالسرقة لكن يؤكد المذهب من جهة الأحاديث الصحيحة كحديث  عمار  ، وغيره ، فإنه مسح وجهه ، وكفيه ، وقد روي من طرق ، ولم يذكر المرفقين ، ورواية المرفقين منكرة عند أهل الحديث . قال  أبو داود     : قال  شعبة     : كان  سلمة  يقول : الوجه والذراعين ، فقال له  منصور  ذات يوم : انظر ما تقول ؛ فإنه لا يذكر الذراعين غيرك ، ولو صحت لحملناها على الفضيلة جمعا بين الحديثين ، وأما الخصم فيعطل أحدهما ، ولأن اليد تغسل جملتها للجنابة ، فإذا أبدل التيمم من الغسل تيمم على بعضها ، وترك العضدان ، فكذلك إذا أبدل من الوضوء ترك بعض ما يغسل للوضوء ، وعكسه الوجه لما كان يوعب للجنابة أوعب بدلا من الوضوء ، ولأن التيمم شرع فيما لم يستر عادة ، فأسقط من محال الطهارة ما ستر عادة ، ولذلك لم يشرع في الرأس لستره بالعمامة ، ولا في الرجلين لسترهما بالنعل ، وشرع في الوجه لكونه باديا ، فكذلك يقتصر على الكوعين لكونهما الباديين . 
هذا الكلام في الإجزاء ، والأفضل البلوغ إلى المرفقين لأنه فعل الصحابة رضي الله عنهم ، وقال   ابن شهاب     : يتيمم إلى الآباط من أسفل ، والمناكب من فوق ; لأن اليد اسم للجملة . 
وأما قول  مالك     : إن خرج الوقت أعاد التيمم فقط ، فهو مشكل ; لأن التيمم لا بد من إعادته ، ولو كان سابغا . قال صاحب الطراز : هو محمول على أنه تنفل بعد فرضه ، واستمر تنفله حتى خرج الوقت ، ثم ذكر ، فإنه يعيد التيمم ، ولا يتنفل بذلك التيمم الناقص ، وكذلك إذا علم قبل انقضاء الوقت ، فلا يتنفل بذلك التيمم حتى يعيد التيمم . 
 [ ص: 355 ] فائدة :   : الكوع آخر الساعد ، وأول الكف ، والمرفق - بكسر الميم ، وفتح الفاء ، وبفتح الميم ، وكسر الفاء - أول الساعد ، والإبهام - بكسر الهمزة مثل الإكرام - وهو الأصبع العظمى من اليد ، والبهام - بغير همز - جمع بهم ، والبهم جمع بهيمة ، وهو واحد أولاد الضأن ذكرا كان أم أنثى ، وهي للضأن مثل السخل للمعز . فروع أربعة : 
الأول : قال صاحب الطراز : يعم وجهه ، ولحيته بالمسح  كما في الوضوء ، فما لا يجزئ في الوضوء لا يجزئ في التيمم ، وجوز   ابن مسلمة  ترك اليسير ،  وأبو حنيفة  ترك الربع ; لأن المسح مبني على التخفيف . 
لنا قوله تعالى : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم    ) كما في الوضوء . 
الثاني : قال : يختلف في مسح الوجه بجميع اليد  ، فجوز  ابن القاسم  مسح الرأس في الوضوء بأصبع إن أوعب ، ويلزم مثله في التيمم . 
وقالت الحنفية : لا يجزئ أقل من ثلاثة أصابع ؛ لأن الأمر بالمسح يقتضي آلة للمسح ، والآلة المعتادة هي الكف ، وهو صادق على أكثره . وهذا باطل ; لأن الآية اقتضت المسح بأي طريق كان . 
الثالث : قال   ابن شاس     : يخلل أصابعه ، وينزع الخاتم قياسا على الوضوء ، وقال صاحب الطراز : تخليل الأصابع في التيمم  أولى من الوضوء لبلوغ الماء ما لا يبلغه التراب ؛ قاله   ابن شعبان     . قال  ابن أبي زيد     : وما رأيت ذلك لغيره قال : قال   ابن عبد الحكم     : ينزع الخاتم ، ومقتضى المذهب أنه لا ينزعه لأنه أخف من الوضوء . 
 [ ص: 356 ] وقد اختلف قول  مالك  في تخليل الأصابع في الوضوء ، فإذا قلنا بالوجوب ثم لم يبعد الوجوب ها هنا . 
الرابع : قال   ابن شاس     : حكمه في الموالاة والترتيب  حكم الوضوء ، وقاله في الكتاب لاشتراكهما في أدلة الحكمين ، ولأن العلماء لم يفرقوا بينهما إلا   الأعمش  ، فإنه قال : يبدأ في التيمم باليدين ، وهو ضعيف . 
وكذلك التدليك . قال صاحب الطراز : وعلى القول بأنه لا يجب في الوضوء لو سفت الريح التراب عليه لم يجزه ، وإن قلنا إن المنغمس في الماء يجزيه ; لأن الوضوء لا بد فيه من إيعاب الأعضاء بالماء ، فإذا أوعبها أجزأه على هذا القول ، فأما التيمم ، فلا يجب فيه الإيعاب بدليل التيمم على الحجر ، فلا بد من الإيعاب بصورة المسح ، فإذا لم يتدلك لم يحصل التيمم ألبتة ، والفرق مذهب   الشافعي     .   
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					