ختم المصنف كتابه بأبواب العتق رجاء أن يعتقه الله من النار ، وأخر عنها هذا الكتاب لأن العتق فيه يستعقب الموت الذي هو خاتمة أمر العبد في الدنيا ويترتب العتق فيه على عمل عمله العبد في حياته ، والعتق فيه قهري مشوب بقضاء أوطار [ ص: 427 ] وهو قربة في حق من قصد به حصول ولد وما يترتب عليه من عتق وغيره ، وقد قام الإجماع على أن العتق من القربات سواء المنجز والمعلق . وأما تعليقه فإن قصد به حث أو منع أو تحقيق خبر فليس بقربة وإلا فهو قربة ، والأصح أن العتق باللفظ أقوى من الاستيلاد لترتب مسببه عليه في الحال وتأخره في الاستيلاد ولحصول السبب بالقول قطعا بخلاف الاستيلاد لجواز موت المستولدة أولا ولأن العتق بالقول مجمع عليه ، بخلاف الاستيلاد . وأمهات : بضم الهمزة وكسرها مع فتح الميم وكسرها جمع أمهة أصل أم أو جمع أم ، وأصلها أمهة بدليل جمعها على ذلك قاله الجوهري . قال : وقال بعضهم الأمهات للناس والأمات للبهائم ، وقال غيره : يقال فيهما أمهات وأمات ، لكن الأول أكثر في الناس والثاني أكثر في غيرهم وأنشد الزمخشري للمأمون بن الرشيد :
وإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللآباء أبناء
والأصل في الباب مجموع أحاديث عضد بعضها بعضا ، كخبر { أنه صلى الله عليه وسلم قال في مارية أم إبراهيم لما ولدت أعتقها ولدها } أي أثبت لها حق الحرية رواه الحاكم ، وقال : إنه صحيح الإسناد ، وصححه ابن حزم أيضا ، ورواه ابن ماجه بسند ضعيف . قال الزركشي : وذكر ابن القطان له إسنادا آخر وقال إنه جيد ا هـ .وقول عائشة رضي الله عنها { ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة } رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي . وكانت مارية من جملة المخلف عنه ، ولم يثبت أنه أعتقها في حياته ولا علق عتقها بوفاته ، وخبر الصحيحين عن أبي سعيد { قلنا : يا رسول الله إنا نأتي السبايا ونحب أثمانهن فما ترى في العزل ؟ [ ص: 428 ] فقال : ما عليكم أن لا تفعلوا ، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة } وفي رواية للنسائي { فكان منا من يريد أن يتخذ أهلا ومنا من يريد البيع فتراجعنا في العزل } الحديث ، وفي رواية لمسلم { فطالت علينا الغربة ورغبنا في الفداء وأردنا أن نستمتع ونعزل } قال البيهقي : لولا أن الاستيلاد يمنع من نقل الملك وإلا لم يكن لعزلهم لأجل محبة الأثمان فائدة . وخبر ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم { قال أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة عن دبر منه } رواه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي والحاكم ، وصحح إسناده ، وقال ابن حجر : له طرق . وفي رواية للدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس أيضا { أم الولد حرة وإن كان سقطا } وخبر { أمهات الأولاد لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن يستمتع منها سيدها ما دام حيا ، فإذا مات فهي حرة } رواه الدارقطني والبيهقي وصححا وقفه عن عمر رضي الله عنه ، وخالف ابن القطان فصحح رفعه وحسنه وقال رواته كلهم ثقات .
، وخبر الصحيحين { إن من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربتها } وفي رواية " ربها " أي سيدها ، فأقام الولد مقام أبيه وأبوه حر فكذا هو ، وقد استنبط عمر رضي الله عنه امتناع بيع أم الولد من قوله تعالى { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } فقال : وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرئ منكم . وكتب إلى الآفاق : لا تباع أم امرئ منكم فإنه قطيعة وإنه لا يحل . رواه البيهقي مطولا ، وإنما قدمت ذكر الأدلة لأن رتبة الدليل العام التقديم ، وقد قال الفخر الرازي : إن المحققين جرت عادتهم بأنهم يذكرون أول الباب ما هو الأصل والقاعدة ثم يخرجون عليه المسائل .
( إذا أحبل أمته فولدت حيا أو ميتا أو ما يجب فيه غرة ) كمضغة فيها صورة آدمي ظاهرة أو خفية أخبر بها القوابل ويعتبر أربع منهن أو رجلان خبيران أو رجل وامرأتان ( عتقت بموت السيد ) لما مر ، ولأن ولدها كالجزء منها وقد انعقد حرا فاستتبع الباقي كالعتق ، لكن العتق فيه قوة من حيث صراحة اللفظ فأثر في الحال وهذا فيه ضعف فأثر بعد الموت ، ولما روى البيهقي عن ابن عمر أنه قال " أم الولد أعتقها ولدها [ ص: 429 ] وإن كان سقطا " وصرح ابن عباس بروايته عن عمر ، نعم لو مات بعد انفصال بعضه ثم انفصل باقيه لم تعتق إلا بتمام انفصاله ، وشمل قوله أحبل إحباله بوطء حلال أو حرام بسبب حيض أو نفاس أو إحرام أو فرض صوم أو اعتكاف ، أو لكونه قبل استبرائها ، أو لكونه ظاهر منها ثم ملكها قبل التكفير ، أو لكونها محرما له بنسب أو رضاع أو مصاهرة ، أو لكونها مزوجة أو معتدة أو مجوسية أو وثنية أو مرتدة أو مكاتبة ، أو لكونها مسلمة وهو كافر ، وتعبيره بالإحبال جرى على الغالب ، فلو استدخلت ذكره أو ماءه المحترم وعلقت منه ثبت إيلادها وعتقت بموته ، وعلم من تعبيره بالإحبال أنه لا بد أن يكون بحيث يولد لمثله ، وأنه لا فرق بين كونه عاقلا ومجنونا ومختارا ومكرها ومحجورا عليه بسفه ، وشمل كلامه ما لو اشترى زوجته ثم وطئها وأتت بولد يمكن كونه من وطئه في النكاح ومن وطئه في ملك اليمين ، ومحل ما ذكره إذا لم يتعلق بالأمة حق الغير وإلا لم ينفذ الإيلاد كما لو أولد راهن معسر مرهونة بغير إذن المرتهن إلا إن كان المرتهن فرعه كما بحثه بعضهم ، فإن انفك الرهن نفذ في الأصح ، وكما لو أولد مالك معسر أمته الجانية المتعلق برقبتها مال ، وإلا إن كان المجني عليه فرع مالكها ، وكما لو أولد محجور فلس أمته كما رجحه السبكي والأذرعي الدميري وهو المعتمد .
وإن ذهب الغزالي إلى النفوذ ورجحه في المطلب وقال البلقيني وابن النقيب : إنه الذي يظهر القطع به لأن حجر الفلس دائر بين حجر السفه والمرض وكلاهما ينفذ معه الإيلاد ، فقد رد بأنه امتاز عن حجر المرض بعموم الحجر عليه فيما معه وعن حجر السفه بكونه لحق [ ص: 430 ] الغير ، وكما لو أولد وارث معسر جارية تركة مورثه المديون وكما لو أقر محجور سفه بإيلاد أمته ولم يثبت كونها فراشا له فإنه لا يقبل وتباع إن اختاره الولي ، فإن ثبت كونها فراشا له وولدته لمدة الإمكان ثبت الإيلاد كما مر ، ولو أقر بنسبه ثبت نسب الولد وحريته وأنفق على المستلحق من بيت المال وكما لو أولد معسر جارية تجارة عبده المأذون المديون بغير إذن العبد والغرماء ، وكما لو أولد أمة نذر التصدق بثمنها أو بها بخلاف ما لو نذر إعتاقها ، ويجاب بمنع استثنائها لزوال ملكه عنها بمجرد نذره التصدق بها أو بثمنها ، وكما لو أولد وارث أمة نذر مورثه إعتاقها وكما لو أولد وارث أمة اشتراها مورثه بشرط إعتاقها لأن نفوذه مانع من الوفاء بالعتق عن جهة مورثه ، وقال الزركشي لو اشترى الابن أمة بشرط العتق فأحبلها أبوه فالظاهر نفوذ إيلاده وتؤخذ منه القيمة وتكون كقيمة العبد المشترى بشرط العتق إذا قتل .
والأصح أنها للمشتري فكذا هنا تكون للولد ، رد بأنها لما منع الشارع من بيعها وسد باب نقلها على المشتري أشبهت مستولدة الابن فلا تصير مستولدة للأب ، فلا يقال إن إيلاد المشتري إياها نافذ فكذا إيلاد أبيه لأن الوفاء بالشرط مع إيلاد المشتري ممكن ولا كذلك إيلاد أبيه ، وكما لو أولد وارث أمة أو أوصى مورثه بإعتاقها ، وهي تخرج من الثلث فلا ينفذ لإفضائه إلى إبطال الوصية ، وكما لو أولد مكاتب أمته فلا ينفذ ، ويحرم عليه وطؤها وإن أذن له سيده لضعف ملكه ، ولو أولد المبعض أمة ملكها ببعضه الحر نفذ إيلاده كما اقتضاه إطلاق المصنف وصححه البلقيني وغيره ، وجزم به الماوردي ، ولا يشكل عليه كونه غير أهل للولاء لأنه إنما يثبت له بموته ، فإن عتق قبله فذاك وإلا فقد زال ما فيه من الرق بموته ، ولو وطئ صبي لم يستكمل تسع سنين أمته فولدت لأكثر من ستة أشهر لحقه ولم يحكم ببلوغه ولم يثبت إيلاده لأن النسب يكفي فيه الإمكان والأصل بقاء صغره وعدم صحة تصرفه والأصل عدم المانع من إزالة ملكه عن الأمة .
وخرج بقول المصنف أمته ، إيلاد المرتد فإنه موقوف كملكه وإيلاد الواقف أو الموقوف عليه الأمة الموقوفة فإنه لا ينفذ ، وما لو استدخلت مني سيدها [ ص: 431 ] المحترم بعد موته فإنها لا تصير أم ولد لانتفاء ملكه لها حال علوقها وإن ثبت نسب الولد وما بعده وورث منه لكون المني محترما ، ولا يعتبر كونه محترما حال استدخالها خلافا لبعضهم ، فقد صرح بعضهم بأنه لو أنزل في زوجته فساحقت بنته فحبلت منه لحقه الولد ، وكذا لو مسح ذكره بحجر بعد إنزاله في زوجته فاستجمرت به أجنبية فحبلت منه ، واستثنى من مفهوم كلامه مسائل يثبت فيها الإيلاد : الأولى إذا أحبل أمة مكاتبه . الثانية إذا أحبل أصل حر أمة فرعه التي لم يولدها وإن كان معسرا ، وتجب عليه قيمتها ، وكذا مهرها إن تأخر الإنزال عن مغيب الحشفة .
الثالثة لو وطئ أمة اشتراها بشرط الخيار للبائع بإذنه لحصول الإجازة حينئذ . الرابعة جارية المغنم إذا وطئها بعض الغانمين وأحبلها قبل القسمة واختيار التملك فقد أحبلها قبل ملكه لشيء منها ، والولد حر نسيب إن كان الواطئ موسرا ، وكذا معسرا كما نقلاه عن تصحيح القاضي أبي الطيب والروياني وغيرهما ، وينفذ الإيلاد في قدر حصته إن كان معسرا ويسري إلى باقيها إن كان موسرا لأن حق الغانم أقوى من حق الأب في مال ابنه ، كذا في الحاوي الصغير تبعا لقول العزيز الظاهر المنصوص نفوذه ، ورجحه الإمام وجزم به البغوي ، لكنه نقل عدم نفوذه عن العراقيين وكثير من غيرهم وجعله في أصل الروضة المذهب ، ثم فرع عليه أنه لو ملكها بعد بشبهة أو بسبب آخر هل ينفذ الإيلاد ؟ فيه قولان كنظائره في مرهونة وجانية ونحوهما أظهرهما النفوذ ، ويحتمل أن يريد بنظائره إيلاد أمة الغير بشبهة أو نكاح ، ولا ينافيه ترجيح النفوذ هنا إذ لا يلزم من جريان الخلاف الاتحاد في الترجيح ويفرق بقوة حق الغانم .
الخامسة التي يملك بعضها إذا أحبلها سرى الإيلاد إلى نصيب شريكه إن كان موسرا كالعتق ، فإن كان معسرا فلا إلا إذا كان شريك المولد فرعا له كما لو أولد الأمة التي كلها لفرعه ، وحيث سرى الإيلاد فالولد حر كله وإلا فالمحكي عن العراقيين أنه حر كله ولا يتبعض . وحكى الرافعي في السير في أمة المغنم تصحيحه عن القاضي أبي الطيب والماوردي وغيرهما ، وصححه في الشرح الصغير وأصل الروضة ، وحكى الرافعي في آخر الكتابة القول بالتبعيض عن أبي إسحاق وأن البغوي قال إنه الأصح ، وجعله في أصل الروضة [ ص: 432 ] الأصح ، وقال الرافعي : في الكلام على وطء أحد الشريكين هل يكون الولد حرا كله أو نصفه ؟ قولان أظهرهما الثاني . وقال في باب ما يحرم من النكاح : ولو قدر على نكاح من بعضها حر فهل له نكاح الأمة المحضة ، تردد فيه الإمام لأن إرقاق بعض الولد أهون من إرقاق كله ا هـ .
قال بعضهم : فالتبعيض هو المعتمد إلا في ولد أمة المغنم إذا أحبلها بعض الغانمين وإن كان معسرا ، لقوة الشبهة فيها كما يؤخذ مما مر ، وكذا ولد المشتركة بين المبعض وسيده لأن المانع من نفوذ استيلاده في الحال إنما هو كونه ليس من أهل الولاء لما فيه من الرق ، فإذا زال بعتقه عمل المقتضى عمله حيث كان موسرا عند الإحبال فيثبت الإيلاد . السادسة الأمة التي يملك فرعه بعضها إذا أولدها الأب الموسر سرى الإيلاد إلى نصيب الشريك الأجنبي أيضا . فإن كان معسرا لم يسر . ويجاب عن هذه المسائل بأن الأصح فيها تقدير انتقال الملك قبيل العلوق فلم يقع الإيلاد إلا في ملكه ، وخرج بقوله أو ما تجب فيه غرة ما لو قلن إنه أصل آدمي ولو بقي لتصور فإنه لا يثبت الإيلاد كما لا تجب به الغرة وإن انقضت به العدة ، وأفاد كلامه أن أم ولد الكافر المسلمة لا يجبر على إعتاقها بل يحال بينهما ، ولو سبيت مستولدة كافر زال ملكه عنها ولم تعتق بموته وكذا مستولدة الحربي إذا أرق ، ولو قهرت مستولدة الحربي سيدها عتقت في الحال ، وشمل قوله عتقت بموته ما لو قتلته فإنها تعتق بموته وإن استعجلت الشيء قبل أوانه لأن الإحبال كالإعتاق ، ولهذا يسري إلى نصيب الشريك فلا يقدح القتل فيه كما لو قتل من أعتقه وتجب ديته في ذمتها .
وما لو مات سيدها قبل وضعها ثم وضعته لمدة يحكم فيها بثبوت نسبه منه فإنه يتبين عتقها بموته ولها أكسابها بعده ، وإسناد أحبل إلى الضمير مجاز عقلي ، ويسمى مجازا حكميا ومجازا في الإثبات وإسنادا مجازيا نحو أنبت الربيع البقل ، وأنث المصنف ولدت وعتقت لأنه يجب تأنيث الفعل بتاء ساكنة في آخر الماضي وبتاء المضارعة في أول المضارع إذا كان فاعله مؤنثا في مسألتين : إحداهما أن يكون ضميرا متصلا . وثانيهما أن يكون متصلا حقيقي التأنيث ، وإنما قال قال عتقت بموت السيد ولم [ ص: 433 ] يقل بموته مع أنه أخصر ليفيد أن كل من أحبل أمته ولم ينفذ إيلاده لمانع لا تعتق بموته والحياة ضد الموت وهو عدم الحياة ويعبر عنه بمفارقة الروح الجسد ، وقيل عدم الحياة عما من شأنه الحياة وقيل عرض يضادها لقوله تعالى { خلق الموت والحياة } ورد بأن المعنى قدر والعدم مقدر


