( الفرق الثامن والثلاثون والمائتان بين قاعدة ما هو حجة عند الحكام وقاعدة ما ليس بحجة عندهم ) 
قد تقدم الفرق بين الأدلة  ،  والأسباب والحجاج  ،  وأن الأدلة شأن المجتهدين  ،  والحجاج شأن القضاة والمتحاكمين والأسباب تعتمد المكلفين  ،  والمقصود هاهنا إنما هو الحجاج فنقول  ،  وبالله نستعين  [ ص: 83 ] الحجاج التي يقضي بها الحاكم سبع عشرة حجة  الشاهدان  ،  الشاهدان واليمين  ،  والأربعة في الزنا  ،  والشاهد واليمين والمرأتان  ،  واليمين والشاهد والنكول  ،  والمرأتان والنكول  ،  واليمين والنكول  ،  وأربعة أيمان في اللعان  ،  وخمسون يمينا في القسامة  ،  والمرأتان فقط في العيوب المتعلقة بالنساء  ،  واليمين وحدها بأن يتحالفا  ،  ويقسم بينهما فيقضي لكل واحد منهما بيمينه والإقرار  ،  وشهادة الصبيان  ،  والقافة  ،  وقمط الحيطان  ،  وشواهدها  ،  واليد فهذه هي الحجاج التي يقضي بها الحاكم  ،  وما عداه لا يقضي به عندنا  ،  وفيها شبهات  ،  واختلاف بين العلماء أنبه عليه فأذكر ما اختلف فيه حجة حجة بانفرادها  ،  وأورد الكلام فيها إن شاء الله تعالى الحجة 
( الأولى الشاهدان ) والعدالة فيهما شرط عندنا  ،  وعند  الشافعي   وأحمد بن حنبل  ،  وقال  أبو حنيفة  العدالة حق للخصم فإن طلبها فحص الحاكم عنها  ،  وإلا فلا  ،  وعندنا هي حق الله تعالى يجب على الحاكم أن لا يحكم حتى يحققها  ،  وقال متأخرو الحنفية إنما كان قول المجهول مقبولا في أول الإسلام حيث كان الغالب العدالة فألحق النادر بالغالب فجعل الكل عدولا . 
وأما اليوم فالغالب الفسوق فيلحق النادر بالغالب حتى تثبت العدالة  ،  والمنقول عن  أبي حنيفة  هو الأول  ،  واستثنى الحدود فلا يكتفي فيها بمجرد الإسلام بل لا بد من العدالة لأن الحدود حق لله تعالى  ،  وهو ثابت فتطلب العدالة  ،  وإذا كان المحكوم به حقا لآدمي يجرحها وجب البحث عنهما لنا إجماع الصحابة فإن رجلين شهدا عند عمر  فقال لا أعرفكما  ،  ولا يضركما أن لا أعرفكما فجاء رجل فقال أتعرفهما قال نعم قال له أكنت معهما في سفر يتبين عن جواهر الناس قال لا قال فأنت جارهما تعرف صباحهما  ،  ومساءهما قال لا قال أعاملتهما بالدراهم والدنانير التي تقطع بينهما الأرحام قال لا فقال ابن أخي ما تعرفهما ائتياني بمن يعرفكما  ،  وهذا بحضرة الصحابة لأنه لم يكن يحكم إلا بحضرتهم  ،  ولم يخالفه أحد فكان إجماعا  ،  والظاهر أنه ما سأل عن تلك الأسباب من السفر وغيره إلا وقد عرف إسلامها لأنه لم يقل أتعرفهما مسلمين  ،  وليس ذلك استحبابا لأن تعجيل الحكم واجب على الفور عند وجود الحجة لأن أحد الخصمين على منكر غالبا  ،  وإزالة المنكر واجب على الفور  ،  والواجب لا يؤخر إلا لواجب  ،  ولقوله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم    } مفهومه أن غير العدل لا يستشهد  ،  وقوله { منكم    } إشارة إلى المسلمين فلو كان الإسلام كافيا لم يبق في لتقييد فائدة . 
والعدل مأخوذ  [ ص: 84 ] من الاعتدال في الأقوال والأفعال والاعتقاد فهو وصف زائد على الإسلام  ،  وغير معلوم بمجرد الإسلام وقوله تعالى { ممن ترضون من الشهداء    }  ،  ورضاء الحاكم بهم فرع معرفتهم وبالقياس على الحدود وبالقياس على طلب الخصم العدالة فإن فرقوا بأن العدالة حق للخصم فإذا طلبها تعينت  ،  وأن الحدود حق لله تعالى  ،  وهو ثابت عن الله منعنا أن العدالة حق لآدمي بل حق لله تعالى في الجميع فيتجه القياس  ،  ويندفع الفرق بالمنع احتجوا بقوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم    } ولم يشترط العدالة  ،  وبقول عمر  رضي الله عنه المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في حد { وقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الأعرابي بعد أن قال له أتشهد أن لا إله إلا الله  ،  وأني رسول الله   } فلم يعتبر غير الإسلام  ،  ولأنه لو أسلم كافر بحضرتنا جاز قبول قوله مع أنه لم يتحقق منه إلا الإسلام  ،  ولأن البحث لا يؤدي إلى تحقق العدالة  ،  وإذا كان المقصود الظاهر فالإسلام كاف في ذلك لأنه أتم وازع  ،  ولأن صرف الصدقة يجوز بناء على ظاهر الحال من غير بحث  ،  وعمومات النصوص والأوامر تحمل على ظاهرها من غير بحث فكذلك هاهنا يتوضأ بالمياه  ،  ويصلي بالثياب بناء على الظواهر من غير بحث فكذلك هاهنا قياسا عليها  ،  والجواب عن الأول أنه مطلق فيحمل على المقيد  ،  وهو قوله ذوي عدل منكم فقيد بالعدالة  ،  وإلا لضاعت الفائدة في هذا القيد  ،  وقيد أيضا برضاء الحاكم . 
وهو مشروط بالبحث  ،  ولأن الإسلام لا يكفي فيه ظاهر الدار فكذلك لا يكفي الإسلام في العدالة  ،  وعن الثاني أنه يدل على اعتبار وصف العدالة بقوله عدول فلو لم يكن معتبر السكت عنه  ،  وهو معارض بقوله في آخر الأمر لا يؤمر مسلم بغير العدول  ،  والمتأخر ناسخ للمتقدم  ،  ولأن ذلك كان في صدر الإسلام حيث العدالة غالبة بخلاف غيره ( وعن الثالث ) أن السؤال عن الإسلام لا يدل على عدم سؤاله عن غيره فلعله سأل أو كان غير هذا الوصف معلوما عنده ( وعن الرابع ) أنا لا نقبل شهادته حتى نعلم سجاياه  ،  وعدم جرأته على الكذب  ،  وإن قبلناه فذلك لأجل تيقننا عدم ملابسته ما ينافي العدالة بعد إسلامه 
( وعن الخامس ) أنه باطل بالإسلام فإن البحث عنه لا يؤدي إلى يقين  ،  ويحكم الحاكم في القضية التي لا نص فيها  ،  ولا إجماع فإن بحثه لا يؤدي إلى يقين . 
وأما الفقر فلا بد من البحث عنه  ،  ولأن الأصل هو الفقر بخلاف العدالة بل وزانه هاهنا أن  [ ص: 85 ] تعلم عدالته في الأصل فإنا لا نبحث عن مزيلها  ،  وكذلك أصل الماء الطهارة فلا يخرج عن ذلك إلا بتغير لونه أو طعمه أو ريحه  ،  وذلك معلوم بالقطع فلا حاجة إلى البحث  ،  ولأن الأصل الطهارة بخلاف العدالة  ،  وأما العمومات والأوامر فإنا لا نكتفي بظاهرها بل لا بد من البحث عن الصارف المخصص  ،  وغيره  ،  ولأن الأصل بقاؤها على ظاهرها . 
     	
		
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					