ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { إن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه } خرجه مالك في الموطإ وغيره من العلماء في الصحاح فأشكل ظاهر الحديث من جهة أن الإنسان لا يؤاخذ بفعل غيره وهي قاعدة صحيحة تعارض هذه القاعدة وحصل الفرق من وجوه : أحدها أنه محمول على ما إذا أوصى بالنياحة كما قال طرفة :
إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
.وثانيها أنهم كانوا يذكرون في نوائحهم مفاخر هي مخاز عند الشرع كالغصب والفسوق فيعذب بها فيكون المعنى أن الميت يعذب بمدلول ما يقع في البكاء من الألفاظ ، ولما كان بين البكاء وبين تلك الأمور ملازمة قد حصلت في الواقع عبر بالبكاء عنه مجازا ، والعلاقة هي هذه الملازمة ؛ لأن اللفظ يلازم مدلوله ، والبكاء يلازم هذا اللفظ فهذه الملازمة هي العلاقة .
وثالثها ما قالته عائشة رضي الله عنها يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ إنما { مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودية يبكي عليها أهلها فقال عليه السلام إنكم لتبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها } واعلم أن هذه الوجوه الثلاثة تكون أجوبة عن الحديث ، ولا توجب فرقا بين القاعدتين ، وإنما هي ترد البكاء إلى فعل الميت بالوصية كما قاله أولا أو بالمباشرة كما قاله ثانيا ، وأما الثالث فهو من جنس الثاني ؛ لأن اليهودية إنما عذبت في قبرها بكفرها لا ببكاء أهلها .
والفرق في التحقيق إن مشينا اللفظ على ظاهره ما وقع لبعض العلماء من أن امرأة من أهل العراق مات [ ص: 177 ] لها ولد فرحلت في بعض مقاصدها إلى المغرب فحضر يوم العيد وعادتها فيه في بلدها تخرج إلى المقابر فتبكي على ولدها ، فلما لم تكن في بلدها خطر لها أن تخرج إلى مقابر تلك البلدة التي حلت بها فتفعل فيها ما كانت تفعله في بلدها فخرجت إليها ، وفعلت ذلك وأكثرت البكاء والعويل والتفجيع على ولدها ، ثم نامت فرأت أهل المقبرة قد هاجوا يسأل بعضهم بعضا هل لهذه المرأة عندنا ولد ؟ فقالوا لا فقال السائل منهم للمسئول فكيف جاءت عندنا تؤذينا ببكائها وعويلها من غير أن يكون لها عندنا ولد ، ثم ذهبوا إليها فضربوها ضربا وجيعا فاستيقظت فوجدت ألما عظيما من ذلك الضرب فدل ذلك على أن الأرواح تتألم من المؤلمات وتفرح باللذات في البرزخ كما كانت في الدنيا وهو ظاهر ، وكذلك تعذب الكفار في قبورها كما قال عليه الصلاة والسلام { إن اليهود لتعذب في قبورها } فالأوضاع البشرية في الأرواح لم تتغير ، وإنما كانت في مسكن فارقته وبقيت على حالها في أوضاعها ، ولما كان البكاء والعويل في حالة الحياة تتأذى به الأرواح وتنقبض كانت بعد الموت تتأذى به كذلك كان عليها أو على غيرها ، وهو عليها أشد نكاية ؛ لأنها هي المصابة حينئذ ، وقد ورد أن الموتى يعلمون أحوال الأحياء ، وما نزل بهم من شدة ورخاء وفقر واستغناء وغير ذلك مما يتجدد لأهليهم ، ويتألمون للمؤلمات ويسرون باللذات ، وقد ورد أنهم يفتخرون بالزيارات ، ويتألمون بانقطاعها .
وإذا كان الأمر كذلك كانوا يتألمون بالبكاء عليهم من أهليهم وغير أهليهم ، والألم عذاب فلذلك قال صلى الله عليه وسلم { إن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه } ، ويكون الفرق بين القاعدتين على هذا التقرير أن الإنسان لا يعذب بفعل غيره أي عذاب الآخرة الذي هو عذاب الذنوب والبكاء عذاب ليس عذاب الآخرة الذي هو عذاب الذنوب المتوعد به من قبل صاحب الشرع بل معناه الألم الجبلي [ ص: 178 ] الذي إذا وقع في الوجود قد يكون رحمة من الله تعالى كمن يبتليه الله تعالى بالألم لرفع درجاته ومن هذا الباب قوله { صلى الله عليه وسلم نحن الأنبياء أشد بلاء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على قدر دينه } ومعلوم أن الأنبياء والصالحين يتألمون بالبلايا والرزايا ، وليس ذلك عذابا بالتفسير الأول بل رحمة من الله تعالى ولذلك قال بعض السلف على القرن الماضي أن كان أحدهم ليفرح بالبلايا كما يفرح أحدكم بالرخاء ، والعذاب يستعاذ منه ولا يفرح به فهذا الوجه عندي هو الفرق الصحيح ، ويبق اللفظ على ظاهره ، ويستغنى عن التأويل وتخطئة الراوي وما ساعده الظاهر من الأجوبة كان أسعدها وأولاها وهذا كذلك ، فيعتمد عليه في الفرق .


