( الفرق الرابع والسبعون والمائتان بين قاعدة ما هو مكروه من الدعاء وقاعدة ما ليس بمكروه ) اعلم أن أصل الدعاء من حيث هو دعاء الندب كما تقدم ، ويعرض له من جهة متعلقه ما يقتضي التحريم وقد تقدم وما يقتضي الكراهة ولذلك أسباب خمسة :
( السبب الأول ) الأماكن كالدعاء في الكنائس والحمامات ومواضع النجاسات والقاذورات ومواضع اللهو واللعب والمعاصي والمخالفات كالحانات ونحوها ، وكذلك الأسواق التي يغلب فيها وقوع العقود الفاسدة [ ص: 299 ] والأيمان الحانثة فجميع ذلك يكره الدعاء فيه من أجل أن القرب إلى الله تعالى ينبغي أن يكون على أحسن الهيئات في أحسن البقاع والأزمان ويدل على اعتبار هذا المعنى { نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق } ، فإن أعجزه الخلوص من ذلك حصل له الدعاء مع فوات رتبة الدعاء كالصلاة في البقاع المكروهة .
( السبب الثاني ) للكراهة الهيئات كالدعاء مع النعاس وفرط الشبع ومدافعة الأخبثين أو ملابسة النجاسات والقاذورات أو قضاء حاجة الإنسان ونحو ذلك من الهيئات التي لا تناسب التقرب إلى ذي الجلال ، فإن فعل صح مع فوات رتبة [ ص: 300 ] الكمال .
( السبب الثالث ) الكرامة كونه سببا لتوقع فساد القلوب وحصول الكبر والخيلاء كما كره مالك وجماعة من العلماء رحمهم الله لأئمة المساجد والجماعات الدعاء عقيب الصلوات المكتوبات جهرا للحاضرين فيجتمع لهذا الإمام التقدم في الصلاة وشرف كونه نصب نفسه واسطة بين الله تعالى وعباده في تحصيل مصالحهم على يده بالدعاء ، ويوشك أن تعظم نفسه عنده فيفسد قلبه ويعصي ربه في هذه الحالة أكثر مما يطيعه ويروى أن بعض الأئمة استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أن يدعو لقومه بعد الصلوات بدعوات فقال لا إني أخشى أن تشمخ حتى تصل إلى الثريا إشارة [ ص: 301 ] إلى ما ذكرنا ويجري هذا المجرى كل من نصب نفسه للدعاء لغيره وخشي على نفسه الكبر بسبب ذلك فالأحسن له الترك حتى تحصل له السلامة .
( السبب الرابع ) كون متعلقه مكروها فيكره كراهة الوسائل لا كراهة المقاصد كالدعاء بالإعانة على اكتساب الرزق بالحجامة ونزو الدواب والعمل في الحمامات وغير ذلك من الحرف الدنيات مع قدرته على الاكتساب بغيرها ، وكذلك القول في الدعاء بكل ما نص العلماء على كراهته يكره كراهة الوسائل .
( السبب الخامس ) للكراهة عدم تعيينه قربة بل يطلق على سبيل العادة والاستراحة في الكلام وتحسين اللفظ من الذي يلابسه كما يجري [ ص: 302 ] ذلك على ألسنة السماسرة في الأسواق عند افتتاح النداء على السلع كقولهم الصلاة والسلام على خير الأنام . قال مالك كم يقولون هذا على سبيل العادة من غير قصد الدعاء والتقرب إلى الله تعالى وهو خبر ومعناه الدعاء وكما يقول المتحدثون في مجالسهم ما أقوى فرس فلان أبلاها الله بدنية أو سبع ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى ولا يريدون شيئا من حقيقته فهذا كله مكروه ، وقد أشار بعض العلماء إلى تحريمه ، وقال كل ما يشرع قربة لله تعالى لا يجوز أن يقع إلا قربة له على وجه التعظيم والإجلال لا على وجه التلاعب ، فإن قلت قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نحوا [ ص: 303 ] من هذا الدعاء ، ومنصبه صلى الله عليه وسلم منزه عن المكروهات بل يجب اتباعه في أقواله وأفعاله وأقل الأحوال أن يكون مباحا فمن ذلك { قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها تربت يداك ومن أين يكون الشبه } لما تعجبت مما لم تعلم من كون المرأة تنزل المني كما ينزل الرجل ، ومعلوم أنه عليه السلام ما أراد إذايتها بالدعاء ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم { عليك بذات الدين تربت يداك } ليس من الإرشاد ما يقتضي قصد الإضرار بالدعاء فقد استعمل الدعاء لا على وجه الطلب والتقرب وهو عين ما نحن فيه . قلت لفظ الدعاء إذا غلب استعماله في العرف [ ص: 304 ] في غير الدعاء انتسخ منه حكم الدعاء ولا ينصرف بعد ذلك إلى الدعاء إلا بالقصد والنية فإذا استعمله مستعمل في غير الدعاء فقد استعمله فيما هو موضوع له عرفا ولا حرج في ذلك ، وإنما الكلام في الألفاظ التي تنصرف بصراحتها للدعاء وتستعمل في غيره فليس ما في الأحاديث من هذا الباب وهاهنا انتهى ما جمع من القواعد والفروق والله أعلم بالصواب
[ ص: 299 - 304 ]


