( الفرق الثالث والمائة بين قاعدة الصلوات في الدور المغصوبة تنعقد قربة بخلاف الصيام في أيام الأعياد والجمع منهي عنه )
أما الصلوات فمشهور المذهب ذلك وهو قول الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما ، وقال ابن حنبل وابن حبيب من أصحابنا رحمهما الله لا تنعقد قربة ، ويجب القضاء فسوى بين البابين فلا فرق [ ص: 183 ] على مذهبه لتسويته بين القاعدتين إنما الفرق على مذهب الجماعة ، وقال جماعة أحمد ومن وافقه مسبوق بالإجماع في الصحة في الصلوات في الدار المغصوبة ، وقد أجمع السلف رضي الله عنهم على عدم أمر الظلمة بالقضاء إذ صلوا بالدور المغصوبة .
وأما الصوم أيام العيدين النحر والفطر ففي الصحيحين { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الفطر ويوم النحر } ففي الجواهر لو قال أصوم هذه السنة لم يلزمه قضاء أيام العيدين والتشريق ورمضان إلا أن ينوي القضاء وروي أن ناذر ذي الحجة يقضي أيام النحر إلا أن ينوي عدم القضاء ، ولو نذر صوم يوم قدوم فلان فقدم في الأيام المحرم صومها فالمنصوص نفي القضاء لتعذره شرعا ، وناذر صوم يوم النحر أو الفطر أو الشك ملغى كنذر الصلوات في الأوقات المكروهة قاله مالك رحمه الله في المدونة وقاله الشافعي رضي الله عنه فظاهر مذهبنا ومذهب الشافعي أن الصوم لا ينعقد قربة في هذين اليومين بخلاف الصلاة .
والصوم والصلاة عبادتان والنهي إنما جاء من جهة الظروف التي هي الزمان في الصوم والمكان في الصلاة والحكم مختلف بين القاعدتين كما ترى والفرق أن المنهي عنه تارة يكون العبادة الموصوفة بكونها في الزمان أو المكان أو الحالة المعينة من بين سائر الأزمنة أو البقاع أو الحالات فتفسد ؛ لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه على قواعدنا وقواعد الشافعي رضي الله عنه ، وتارة يكون المنهي عنه هو الصفة العارضة للعبادة فلا تفسد العبادة لتعلق النهي حينئذ بأمر خارج عن العبادة ، والمباشر بالنهي في الصوم إنما هو الموصوف بكونه في يوم الفطر أو النحر كما تقدم الحديث والمباشر بالنهي في الصلاة في الدار المغصوبة إنما هو الغصب ولم يرد نهي عن الصلاة في الدار المغصوبة إنما ورد في الغصب دون الصلاة المقارنة للغصب والقضاء على الصفة لا يلزم أن يتعدى إلى الموصوف وبالعكس فيصح أن يقال شرب الخمر مفسدة ولا يصح أن [ ص: 184 ] يقال شارب الخمر مفسدة ، ويصح أن يقال شارب الخمر ساقط العدالة ، ولا يصح أن يقال شرب الخمر ساقط العدالة فظهر أن أحكام الصفات لا تنتقل للموصوفات وأحكام الموصوفات لا تنتقل للصفات ، وظهر أن النهي في الصوم عن الموصوف وفي الصلاة في الدار المغصوبة عن الصفة ، وأن الأحكام على إحدى الجهتين لا تنتقل للأخرى فإن قلت لو نذر الصلاة في الدار المغصوبة لم ينعقد نذره كما في صوم يوم النحر فهما سواء قلت لا لأنهم قالوا إن الصلاة إذ وقعت في الدار المغصوبة تبرئ الذمة .
وقالوا إذا وقع الصوم في يوم النحر ويوم الفطر لا ينعقد قربة وبراءة الذمة بالصلاة في الدار المغصوبة يقتضي أنها انعقدت قربة ؛ لأن الذمة لا تبرأ من الواجب بما ليس واجبا فضلا على أنه ليس بقربة فتكون الصلاة في الدار المغصوبة قربة واجبة من جهة أنها صلاة لا من جهة اشتمالها على الغصب فإن قلت الصوم والصلاة كلاهما قربة بالإجماع ، والنهي والمفسدة إنما جاء من جهة أمر خارجي وهو الزمان في الصوم والمكان في الصلاة فأنت إذن فرعت على مذهب من يرى أن النهي عن الوصف لا يتعدى إلى الأصل لزم ذلك فيما قاله أبو حنيفة رحمه الله في عقود الربا أن الوصف يبطل ويصح الأصل لسلامته عن النهي والمفسدة فيلزمك أن تلتزم مذهبه وإن فرعت على مذهب من يرى أن البابين واحد وهو مذهب أحمد فيلزمك أن تلتزم ما قاله في إبطال الصلاة في الدار المغصوبة وبالثوب المغصوب وإبطال الوضوء بالماء المغصوب ونحو ذلك من فروع الحنابلة وأنت لم تقل بهذا المذهب ولا بذاك فكان مذهبنا مشكلا فتحتاج الجواب لمالك والشافعي عن هذا الإشكال وإن تبطل الفرق الذي ذكرته بين الصلاة والصوم فإنك إن اعتبرت الأصل والوصف وفرقت بينهما كقول أبي حنيفة لزمك الصحة في الصلاة والصوم ؛ لأن النهي لأمر خارجي وهو الزمان والمكان وإن سويت كما قاله أحمد لزمك البطلان فيهما ، وعلى [ ص: 185 ] التقديرين بطل ما حاولته من الفرق قلت سؤالات حسنة والجواب عنها أني ألتزم الفرق بين الأصل والوصف ولا أسوي كما قالته الحنابلة .
ولا يلزمني عقود الرب بسبب أن انتقال الإملاك في المعاوضات يعتمد الرضا لقوله عليه الصلاة والسلام {لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه } ، وصاحب الدرهم أو الصاع من البر ما رضي بإخراجه من ملكه إلا مقابلا بدرهمين أو صاعين فإذا أسقطنا أحد الدرهمين أو أحد الصاعين بطل ما حصل به الرضا ، ونقل الملك بغير رضا لا يجوز ويلزم أيضا نقل الملك بغير عقد فإن متعلق العقد ومقتضاه إنما هو هذا المجموع إما درهم بدرهم فلم يقتضه العقد بل اقتضى عدمه فإن مفهوم قول القائل بعتك درهما بدرهمين أنه لا يبيعه درهما بدرهم ، وإذا لم يوجد العقد يكون نقل الملك بغير رضا ولا عقد وهو خلاف الإجماع بخلاف الصلاة موجب الأمر بجملته وجد في الصلاة في الدار المغصوبة فإن الآمر بالصلاة لم يشترط فيها عدم الغصب بل حرم الله تعالى الغصب ولم يشترط فيه عدم الصلاة ، وأوجب الصلاة ولم يشترط فيه عدم الغصب فقد وجد مقتضى الأمر بجملته ومقتضى النهي بجملته فوجب اعتبارهما وأن يترتب على كل واحد منهم مقتضاه كما أن الله تعالى حرم السرقة ، ولم يشترط فيه عدم الصلاة ، وأوجب الصلاة ولم يشترط فيها عدم السرقة فإذا سرق في صلاته فقد وجد موجب الأمر بجملته وموجب النهي بجملته ، فوجب أن يترتب على كل واحد منهما مقتضاه فتبرأ ذمته بالصلاة ، ونقطعه للسرقة عملا بتحقق السببين فهذا هو الفرق بين العقود ومقتضياتها وبين الأوامر وموجباتها فتأمل ذلك فهو من النظر الجميل والبحث الدقيق .
وأما ما ذكرته من سقوط الفرق بسبب أنهما قربتان في أنفسهما ، والنهي إنما جاء من أمر خارجي فأقول ورود النهي عن العبادة الموصوفة يدل على أن العبادة الموصوفة عرية عن المصلحة التي في العبادة التي ليست [ ص: 186 ] موصوفة بتلك الصفة ، والأوامر تتبع المصالح فإذا ذهبت المصلحة ذهب الطلب والأمر ، وإذا ذهب الطلب لم يبق للصوم قربة وفي الصلاة لم ينه عنها أصلا إنما ورد النهي عن الصفة خاصة التي هي الغصب فبقيت الصلاة على حالها مشتملة على مصلحة الأمر فكان الأمر ثابت فكانت قربة فظهر بهذا التقرير أن صوم يوم النحر والفطر ليس بقربة والصلاة في الدار المغصوبة قربة ، وبذلك ظهر الفرق بين القاعدتين واندفعت الإشكالات كلها .


