ثم أشار الناظم  إلى إيضاح ما أفهمه من القاعدة التي ذكرها مصرحا بأن أفعال المكره لغو لا يؤاخذ بها فقال : 
مطلب : في أن أفعال وأقوال المكره  لغو إلا في القتل ، والإسلام والزنا : 
ولغو مع الإكراه أفعال مكره سوى القتل والإسلام ثم الزنا قد   ( ولغو ) قال في القاموس : اللغو واللغا كالفتى السقط ، وما لا يعتد به من كلام وغيره كاللغوى كسكرى ( مع الإكراه ) ممن يتأتى منه ( أفعال مكره ) بفتح الراء ، وكذا أقواله من باب أولى ، فإن من العلماء من قال : إن التقية تختص بالأقوال دون الأفعال وروي ذلك عن  ابن عباس   وأبي العالية   وأبي الشعثاء   والربيع بن أنس  والضحاك  ، وهو رواية عن الإمام  أحمد  رضي الله عنهم أجمعين ، فإذا قال : أو فعل لداعي الإكراه فقوله وفعله لغو ، وجود ذلك وعدمه منه سواء . 
فلو أكره على الوضوء ، أو الغسل ففعل ذلك لداعي الإكراه  لم يصح منه ، وكذا لو أكره الصائم على الأكل أو الشرب فأكل ، أو شرب لداعي الإكراه  لم يفطر على الصحيح من المذهب . 
ومثل ذلك لو أكره على البيع بغير حق ، أو على الإقرار ، أو على الكفر ففعل لداعي الإكراه مع سلامة قلبه  لم يضره ذلك ، ولو أكره على السجود لصنم  ، فإن كان الصنم تجاه القبلة ، أو غيرها فليسجد ويجعل نيته لله تعالى ، والمذهب ، ولو لم ينو ذلك لم يكفر إذا سجد لداعي الإكراه ولكن النية أولى خروجا من الخلاف . 
قال الحافظ ابن رجب    : وأما الإكراه على الأقوال  فاتفق العلماء على صحته ، وأن من أكره على قول محرم إكراها معتبرا  أن له أن يفتدي نفسه به ولا إثم عليه ، وقد دل عليه  قوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان     } ، وقال النبي  صلى الله عليه وسلم  لعمار  رضي الله عنه { إن عادوا فعد    } وكان المشركون قد عذبوه حتى يوافقهم على ما يريدونه من قول الكفر ، ففعل والله أعلم . 
 [ ص: 84 ] ثم استثنى الناظم  رحمه الله تعالى ثلاث صور : الأولى ما أشار إليها بقوله ( سوى القتل ) لا يكون فعل المكره إذا فعله لغوا ، بل مؤاخذا به ، فلو أكره مكلف على قتل إنسان يكافئه فقتله  قتل به المكره والمكره معا هذا هو المذهب المشهور ، والقول الصحيح المنصور ، وعند أبي بكر  أن القتل على المباشر دون الآمر ، والمذهب عليهما مع الإكراه المعتبر ; لأن المكره حالة الإكراه يقع التعارض عنده بين تفويت نفسه ونفس غيره وهما بالنسبة إلى عدل الشرع سواء ، فإذا أقدم المكره على القتل فقد آثر بقاء نفسه على فواتها وفناء نفس غيره فصار مختارا ، وخرج عن حد الإكراه ، وهو مكلف في هذه الصورة خلافا للطوفي   وأبي الخطاب  في الانتصار . 
ومثله لو قيل له : اقتل نفسك وإلا قتلتك فليس بإكراه فلا يباح له قتل نفسه . واختاره في الرعاية أنه يكون إكراها ، والمذهب لا والله أعلم ( و ) الصورة الثانية ما أشار إليها بقوله وسوى ( الإسلام ) فيما إذا كان المكره عليه غير ذمي ولا مستأمن وأكره على الإسلام فأسلم  ، فإن إسلامه صحيح ; لأنه إكراه بحق . 
قال في الإقناع : ولو أكره ذمي ، أو مستأمن على إقراره به يعني الإسلام  لم يصح ; لأنه ظلم حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا ، مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه ، وإن مات قبل زوال الإكراه فحكمه حكم الكفار ، وإن رجع إلى الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام بخلاف حربي ومرتد ، فإنه يصح إكراههما عليه ويصح ظاهرا ، فإن مات الحربي ، أو المرتد قبل زوال الإكراه عنه فحكمه حكم المسلمين ، وفي الباطن إن لم يعتقد الإسلام بقلبه فهو باق على كفره باطنا ولا حظ له في الإسلام . 
قال في المغني : أجمع أهل العلم على أن الذمي إذا أقام على ما عوهد عليه ، والمستأمن  لا يجوز نقض عهده ولا إكراهه على ما لا يلزمه والله أعلم . 
( تنبيه ) : عبارة الفروع : وإن أكره حربي على إقراره به لم يصح ; لأنه ظلم واعترضه ابن قندس  في حواشيه ، والقاضي علاء الدين  في تصحيحه . قال في تصحيح الفروع عند قوله : وإن أكره حربي ، كذا في النسخ ، وصوابه : وإن أكره ذمي وبعضهم أصلحها كذلك ، انتهى . 
وفي قواعد ابن اللحام  صحح إسلام المرتد ، والحربي ; لأنه إكراه بحق  [ ص: 85 ] ولو أكره الذمي لا يصح إسلامه ; لأن إكراهه ظلم ، وفي الانتصار احتمال ; لأن الإسلام واجب عليه في الجملة ، وإنما ذكرت لك هذا حرصا عليك من أن يسبق إلى ذهنك أن ما في الفروع قول في المذهب ، بل سبق قلم ، والله أعلم . 
والصورة الثالثة ما ذكرها بقوله ( ثم ) ، وهي حرف عطف وترتيب ، والمراد بالترتيب هنا في الذكر مع أن الحامل للإتيان بها ضرورة النظم ( الزنا ) ، وهو من أكبر الكبائر ( قد ) أي حسب بمعنى فقط ، فإنه لا يباح بإكراه كما قدمنا ; لأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار ، والإكراه ينافيه ، فإذا وجد الانتشار انتفى الإكراه فيلزمه الحد ، والإثم ، كذا قالوا رحمهم الله تعالى ، وقال  الشافعي  لا حد عليه . قال الإمام  الموفق  في المغني : وهو أصح الأقوال إن شاء الله تعالى ، وأجاب عن قول الأصحاب أن التخويف ينافي الانتشار بأنه لا يصح ; لأن التخويف بترك الفعل ، والفعل لا يخاف منه فلا يمنع ذلك انتهى . وأيضا الإكراه شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات    . 
وفي الفروع : وإن أكره رجل فزنى  فعنه يحد اختاره الأكثر ، وعنه لا كامرأة مكرهة ، أو غلام يعني على الفعل فيه بإلجاء ، أو تهديد ، أو منع طعام مع اضطرار ونحوه ، انتهى . 
وألحق تقي الدين بن اللحام  بذلك مسائل منها لو أكره على وطء الحائض    . ومنها لو أكره على وطء امرأته في نهار رمضان    . ومنها لو أكره على الكلام في الصلاة  ، ومنها لو أكره على إفساد وضوئه    . ومنها لو أكره على الرضاع  ، فإنه يثبت حكمه مع الإكراه ذكره  القاضي  في الجامع الكبير محل وفاق . ومنها لو أكره المؤلي على المؤلى منها فوطئ  فقد فاء إليها . قال في الترغيب : إذ الإكراه على الوطء لا يتصور ، وهو كما قال : فإن المعتمد في المذهب في هذه المسائل ما ذكره . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					