ذكر بيعة العقبة  الثانية  
لما فشا الإسلام في الأنصار  اتفق جماعة منهم على المسير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مستخفين لا يشعر بهم أحد ، فساروا إلى مكة  في الموسم في ذي الحجة مع كفار قومهم واجتمعوا به وواعدوه أوسط أيام التشريق بالعقبة    . 
فلما كان الليل خرجوا بعد مضي ثلثه ، مستخفين يتسللون حتى اجتمعوا بالعقبة  ، وهم سبعون رجلا ، معهم امرأتان :  نسيبة بنت كعبأم عمارة  وأسماء أم عمرو بن عدي من بني سلمة   وجاءهم رسول الله ومعه عمه   العباس بن عبد المطلب  ، وهو كافر أحب أن يتوثق لابن أخيه ، فكان  العباس  أول من تكلم فقال : يا معشر الخزرج  ، وكانت العرب تسمي الخزرج  والأوس  به ، إن محمدا  منا حيث قد علمتم في عز ومنعة ، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه فأنتم وذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة . 
فقال الأنصار    : قد سمعنا ما قلت ، فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما أحببت . 
 [ ص: 692 ] فتكلم وتلا القرآن ، ورغب في الإسلام ثم قال : تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم   . 
ثم أخذ   البراء بن معرور  بيده ثم قال : والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أهل الحرب . 
فاعترض الكلام   أبو الهيثم بن التيهان  فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا ، وإنا قاطعوها ، يعني اليهود  ، فهل عسيت إن أظهرك الله - عز وجل - أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ . 
فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : بل الدم الدم ، والهدم الهدم ، أنتم مني وأنا منكم ، أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أخرجوا إلي اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم   " ، فأخرجوهم تسعة من الخزرج  وثلاثة من الأوس    . 
وقال لهم  العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري     : يا معشر الخزرج  هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ تبايعونه على حرب الأحمر والأسود ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه ، فمن الآن فهو والله خزي الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة . 
قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله ؟ قال : الجنة . قالوا : ابسط يدك ، فبايعوه . 
وما قال  العباس بن عبادة  ذلك إلا ليشد العقد له عليهم . وقيل : بل قاله ليؤخر الأمر ليحضر  عبد الله بن أبي بن سلول  فيكون أقوى لأمر القوم . 
فكان أول من بايعه   أبو أمامة أسعد بن زرارة  ، وقيل :   أبو الهيثم بن التيهان  ، وقيل :   البراء بن معرور     . ثم تتابع القوم فبايعوا ، فلما بايعوه صرخ الشيطان من رأس العقبة    : يا   [ ص: 693 ] أهل الجباجب ، هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أما والله لأفرغن لك أي عدو الله ! " ثم قال : " ارفضوا إلى رحالكم " فقال له  العباس بن عبادة     : والذي بعثك بالحق نبيا لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا . فقال : " لم نؤمر بذلك " ، فرجعوا . 
فلما أصبحوا جاءهم جلة قريش  فقالوا : قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه وتبايعونه على حربنا ، وإنه والله ما من حي من أحياء العرب أبغض إلينا أن تنشب بيننا وبينهم الحرب منكم . فحلف من هنالك من مشركي الأنصار  ما كان هذا شيء . 
فلما سار الأنصار  من مكة  قال   البراء بن معرور     : يا معشر الخزرج    ! قد رأيت أن لا أستدبر الكعبة  في صلاتي . فقالوا له : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقبل الشام  ، فنحن لا نخالفه ، فكان يصلي إلى الكعبة  ، فلما قدم مكة  سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها . فرجع إلى قبلة رسول الله . فلما بايعوه ورجعوا إلى المدينة  ، كان قدومهم في ذي الحجة ، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة  بقية ذي الحجة والمحرم وصفر ، وهاجر إلى المدينة  في شهر ربيع الأول ، وقدمها لاثني عشرة ليلة خلت منه . 
وقد كانت قريش  لما بلغهم إسلام من أسلم من الأنصار  ، اشتدوا على من بمكة  من المسلمين ، وحرصوا على أن يفتنوهم ، فأصابهم جهد شديد ، وهي الفتنة الآخرة ، وأما الأولى فكانت قبل هجرة الحبشة    . 
وكانت البيعة في هذه العقبة  على غير الشروط في العقبة  الأولى ، فإن الأولى كانت على بيعة النساء ، وهذه البيعة كانت على حرب الأحمر والأسود . 
ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة إلى المدينة   ، فكان أول من قدمها   أبو سلمة بن عبد الأسد  ، وكانت هجرته قبل البيعة بسنة ، ثم هاجر بعده   عامر بن ربيعة حليف بني عدي   مع امرأته  ليلى ابنة أبي حثمة     ! ثم  عبد الله بن جحش  ومعه أخوه  أبو أحمد   [ ص: 694 ] وجميع أهله ، فأغلقت دارهم ، وتتابع الصحابة ، ثم هاجر   عمر بن الخطاب  وعياش بن أبي ربيعة  فنزلا في بني عمرو بن عوف  ، وخرج  أبو جهل بن هشام   والحارث بن هشام  إلى  عياش بن أبي ربيعة  بالمدينة  ، وكان أخاهما لأمهما ، فقال له : إن أمك قد نذرت أنها لا تستظل ولا تمتشط . فرق لها وعاد . وتتابع الصحابة بالهجرة إلى أن هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					