[ ص: 436 ]   76 
ثم دخلت سنة ست وسبعين 
ذكر خروج  صالح بن مسرح   
كان  صالح بن مسرح التميمي  رجلا ناسكا ، مصفر الوجه ، صاحب عبادة ، وكان بدارا  وأرض الموصل  والجزيرة  ، وله أصحاب يقرأ بهم القرآن والفقه ويقص عليهم ، فدعاهم إلى الخروج وإنكار الظلم وجهاد المخالفين لهم ، فأجابوه ، وحثهم عليهم ، فراسل أصحابه بذلك وتلاقوا به ، فبينا هم في ذلك إذ قدم عليه كتاب  شبيب  يقول له : إنك كنت تريد الخروج ، فإن كان ذلك من شأنك اليوم ، فأنت شيخ المسلمين ، ولن نعدل بك أحدا ، وإن أردت تأخير ذلك [ اليوم ] أعلمني ، فإن الآجال غادية ورائحة ، ولا آمن أن تخترمني المنية ولم أجاهد الظالمين . 
فكتب إليه  صالح     : إنه لم يمنعني من الخروج إلا انتظارك ، فأقبل إلينا ، فإنك ممن لا يستغنى عن رأيه ، ولا تقضى دونه الأمور . فلما قرأ  شبيب  كتابه دعا نفرا من أصحابه ، منهم : أخوه  مصاد بن يزيد بن نعيم الشيباني  ،  والمحلل بن وائل اليشكري  ، وغيرهما ، وخرج بهم حتى قدم على  صالح  بدارا  ، فلما لقيه قال : اخرج بنا رحمك الله ، فوالله ما تزداد [ السنة ] إلا دروسا ، ولا يزداد المجرمون إلا طغيانا . 
فبث  صالح  رسله ، وواعد أصحابه الخروج إلى ذلك هلال صفر سنة ست وسبعين ، فاجتمعوا عنده تلك الليلة ، فسأله بعضهم عن القتال قبل الدعاء أم بعده ؟ فقال : بل ندعوهم ، فإنه أقطع لحجتهم . فقال له : كيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به ، ما تقول في دمائهم وأموالهم ؟ فقال لهم : إن قتلنا وغنمنا فلنا ، وإن عفونا فموسع علينا .
 [ ص: 437 ] ثم وعظ أصحابه وأمرهم بأمره وقال لهم : إن أكثركم رجالة ، وهذه دواب  لمحمد بن مروان  ، فابدؤوا بها فاحملوا عليها رجالكم ، وتقووا بها على عدوكم . 
فخرجوا تلك الليلة ، فأخذوا الدواب فاحتملوا عليها ، وأقاموا بأرض دارا  ثلاث عشرة ليلة . وتحصن منهم أهلها وأهل نصيبين  وسنجار  ، وكان خروجه وهو في مائة وعشرين ، وقيل : وعشرة . 
وبلغ محمدا مخرجهم ، وهو أمير الجزيرة  ، فأرسل  عدي بن عدي الكندي  إليهم في ألف فارس ، فسار من حران  ، فنزل دوغان  ، وكانوا أول جيش سار إلى  صالح  ، وسار  عدي  وكأنه يساق إلى الموت . وأرسل إلى  صالح  يسأله أن يخرج من هذه البلاد ويعلمه أنه يكره قتاله ، وكان عدي ناسكا ، فأعاد  صالح     : إن كنت ترى رأينا خرجنا عنك ، وإلا فنرى رأينا . فأرسل إليه  عدي     : إني لا أرى رأيك ، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك . فقال  صالح  لأصحابه : اركبوا . فركبوا ، وحبس الرسول عنده ومضى بأصحابه ، فأتى عديا وهو يصلي الضحى ، فلم يشعروا إلا والخيل طالعة عليهم ، فلما رأوها تنادوا ، وجعل  صالح  شبيبا  في ميمنته ،  وسويد بن سليم  في ميسرته ، ووقف في القلب ، فأتاهم وهم على غير تعبية ، وبعضهم يجول في بعض ، فحمل عليهم  شبيب  وسويد فانهزموا ، وأتي  عدي بن عدي  بدابته فركبها وانهزم ، وجاء  صالح  ونزل في معسكره ، وأخذوا ما فيه . 
ودخل أصحاب  عدي  على محمد بن مروان ، فغضب على  عدي  ، ثم دعا  خالد بن جزء السلمي  ، فبعثه في ألف وخمسمائة ، ودعا  الحارث بن جعونة العامري  ، فبعثه في ألف وخمسمائة وقال : اخرجا إلى هذه المارقة ، وأغذا السير ، فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه . فخرجا متساندين يسألان عن  صالح  ، فقيل لهما : إنه نحو آمد ، فقصداه ، فوجه  صالح  شبيبا  في شطر من أصحابه إلى  الحارث بن جعونة  ، وتوجه هو نحو  خالد  ، فاقتتلوا من وقت العصر أشد قتال ، فلم تثبت خيل  محمد  لخيل  صالح  ، فلما رأى أميراهم ذلك ترجلا ، وترجل معهما أكثر أصحابهما ، فلم يقدر أصحاب  صالح  حينئذ عليهم ، وكانوا إذا حملوا استقبلتهم الرجالة بالرماح ، ورماهم الرماة بالنبل ، وطاردهم خيالتهم ، فقاتلوهم إلى المساء ، فكثرت الجراح في الفريقين ، وقتل من أصحاب  صالح  نحو ثلاثين رجلا ، ومن أصحاب  محمد  أكثر من سبعين . 
فلما أمسوا تراجعوا ، فاستشار  صالح  أصحابه ، فقال  شبيب     : إن القوم قد اعتصموا   [ ص: 438 ] بخندقهم ، فلا أرى أن نقيم عليهم . فقال  صالح     : وأنا أرى ذلك . فخرجوا من ليلتهم سائرين ، فقطعوا أرض الجزيرة  وأرض الموصل  ، وانتهوا إلى الدسكرة    . فلما بلغ ذلك  الحجاج  سرح إليهم  الحارث بن عميرة بن ذي الشعار  في ثلاثة آلاف من أهل الكوفة   ، فسار حتى دنا من الدسكرة  ، وخرج  صالح بن مسرح  حتى أتى قرية يقال لها مدبج  على تخوم ما بين الموصل  وجوخى  ،  وصالح  في تسعين رجلا ، فلقيهم  الحارث  لثلاث عشرة بقين من جمادى ، فاقتتلوا ، فانهزم  سويد بن سليم  في ميسرة  صالح  ، وثبت  صالح  ، فقتل ، وقاتل  شبيب  حتى صرع عن فرسه ، فحمل عليهم راجلا ، فانكشفوا عنه ، فجاء إلى موقف  صالح  فأصابه قتيلا ، فنادى : إلي يا معشر المسلمين ، فلاذوا به . فقال لأصحابه : ليجعل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه ، وليطاعن عدوه حتى يدخل هذا الحصين ونرى رأينا ، ففعلوا ذلك ودخلوا الحصين جميعهم ، وهم سبعون رجلا ، وأحاط بهم  الحارث  وأحرق عليهم الباب ، وقال : إنهم لا يقدرون على الخروج منه . 
(  مسرح  بضم الميم ، وفتح السين المهملة ، وتشديد الراء وكسرها ، وبالحاء المهملة .  وجعونة  بفتح الجيم ، وسكون العين المهملة ، وفتح الواو ، وآخره نون ) . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					