[ ص: 111 ] 168 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله : إن الشيطان يستحل طعام القوم إذا لم يذكروا اسم الله عليه ، ما المراد بذلك الاستحلال ؟
1077 - حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل قال : حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن معمر قال : حدثني سليمان الأعمش ، عن زيد بن وهب الجهني ، عن حذيفة بن اليمان قال : بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أتي بجفنة ، فكف عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنا لا نضع أيدينا حتى يضع يده .
فجاء أعرابي كأنه يطرد حتى يهوي إلى الجفنة ، فأكل منها ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده فأجلسه . ثم جاءت جارية ، فأهوت بيدها تأكل ، فأخذ بيدها فأجلسها . ثم قال : إن الشيطان يستحل طعام القوم إذا لم يذكروا اسم الله عليه ، وإنه لما رآكم كففتم جاء بالأعرابي ؛ ليستحل به ، ثم جاء بالجارية ليستحل بها ؛ فوالله الذي لا إله غيره إن يده في يدي مع أيديهما .
قال أبو جعفر : وأهل العلم جميعا بالحديث يقولون : إن معمرا غلط في إسناد هذا الحديث عن الأعمش ، وإن الصحيح في إسناده .
[ ص: 112 ]
1078 - هو ما حدثنا فهد بن سليمان قال : حدثنا محمد بن الصلت الكوفي قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن أبي حذيفة ، عن حذيفة قال : كنا إذا حضرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الطعام لم نضع أيدينا فيه حتى يضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ، وإنا حضرنا معه طعاما فجاء أعرابي كأنه يدفع حتى ذهب ليضرب يده في الطعام ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ، ثم جاءت جارية كأنها تدفع فذهبت لتضرب يدها في الطعام ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدها ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الشيطان يستحل الطعام لا يذكر عليه اسم الله عز وجل ، وإنه جاء بهذا الأعرابي وهذه الجارية يستحل بهما طعامكم ، فوالذي نفسي بيده إن يده مع أيديهما في يدي الساعة .
1079 - وما حدثنا فهد أيضا قال : حدثنا عمر بن حفص بن غياث النخعي قال : حدثنا أبي قال : حدثنا الأعمش قال : حدثني خيثمة قال : حدثنا أبو حذيفة ، [ ص: 113 ] عن حذيفة بن اليمان قال : كنا إذا دعينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى طعام كففنا أيدينا حتى يضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ، فدعينا إلى طعام فكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده فكففنا أيدينا ، فجاء أعرابي كأنه يطرد فأهوى بيده فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده فأجلسه . ثم جاءت جارية كأنها تطرد حتى أهوت بيدها ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدها فأجلسها . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لما أعييناه أن لا يذكر اسم الله عز وجل جاء بهذا الأعرابي كأنه يعني شيطانا ؛ ليستحل به طعامنا ، فأخذت بيده فأجلسته . ثم جاء بهذه الجارية ليستحل بها طعامنا ، فأخذت بيدها فأجلستها ، والذي نفسي بيده إن يده لفي يدي مع أيديهما . ثم سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكل .
قال أبو جعفر : فاحتجنا إلى أن نعلم من أبو حذيفة هذا المروي عنه هذا الحديث ، فنظرنا في ذلك .
1080 - فوجدنا محمد بن علي بن داود قد حدثنا قال : حدثنا داود بن عمرو الضبي قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن علي بن الأقمر ، عن أبي حذيفة وكان من أصحاب عبد الله ، عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، إن صفية امرأة . فقالت بيدها أي إنها قصيرة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد مزجتيها بكلمة لو مزجت بها البحر لمزجته .
قالت : وحكيت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا فقال : ما يسرني أني حكيت رجلا وإن لي كذا وكذا .
[ ص: 114 ] قال أبو جعفر : فوقفنا بذلك على أنه من أصحاب عبد الله بن مسعود ، وكان في ذلك ما قد دل على جلالة مقداره وعلو منزلته ، ثم طلبنا القبيلة التي هو منها فوجدنا البخاري قد ذكره في تاريخه قال : واسمه سلمة بن صهيبة الأرحبي . وأرحب من همدان .
ثم تأملنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الشيطان يستحل طعام القوم إذا لم يذكروا اسم الله عليه ؛ لنقف على ذلك الاستحلال ما هو ؟ فوجدنا الحلال هو الشيء المطلق ، ووجدنا الحرام هو الشيء الممنوع منه ، ووجدنا من فعل شيئا ممنوعا منه كان بذلك مطلقا لنفسه ما فعله من ذلك ، فكان بفعله ذلك مستحلا لإطلاقه لنفسه ما أطلقه لها من ذلك حتى فعلته .
ومن ذلك قول الله جل وعز في الآية التي ذكر فيها النسيء يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ، أي ليطلقوا لأنفسهم ما حرم الله عز وجل عليهم من ذلك .
ومنه قول الناس : استحل فلان دمي ، واستحل فلان مالي ، على معنى أطلق لنفسه دمي وأطلق لنفسه مالي .
ثم تأملنا بعد ذلك ما في هذا الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن الشيطان يستحل طعام القوم إذا لم يذكروا اسم الله عليه فوجدناه - صلى الله عليه وسلم - قد روي عنه [ ص: 115 ] أمره بالتسمية على الأشياء عند وضعها ؛ ليكون ذلك منعا للشيطان منها .
1081 - كما حدثنا يونس والربيع بن سليمان المرادي قالا : حدثنا شعيب بن الليث بن سعد ( ح ) . ووجدنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قد أخبرنا قال : أخبرنا أبي وشعيب ، ثم اجتمعوا جميعا فقالوا : عن الليث بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : غطوا الإناء ، وأوكوا السقاء ، وأغلقوا الباب ، وأطفئوا المصباح ؛ فإن الشيطان لا يحل سقاء ، ولا يفتح بابا ، ولا يكشف إناء ؛ فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودا ، فيذكر اسم الله عليه فليفعل ؛ فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم .
1082 - وكما حدثنا يزيد بن سنان قال : حدثنا أبو عاصم قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا جنح الليل فكفوا صبيانكم حتى تذهب ساعة من الليل ، ثم خلوا سبيلهم ؛ فإن [ ص: 116 ] الشياطين تنتشر حينئذ ، وأغلقوا أبوابكم ، واذكروا اسم الله عز وجل ؛ فإن الشيطان لا يفتح مغلقا ، وأوكوا قربكم ، واذكروا اسم الله عز وجل . وخمروا آنيتكم ، واذكروا اسم الله عز وجل ، ولو أن تعرضوا عليه بعود .
قال : وأخبرني عمرو ، عن جابر بنحو من هذا ، ولم يذكر قوله : فاذكروا اسم الله .
1083 - وكما حدثنا يزيد قال : حدثنا القعنبي قال : قرأت على مالك ، عن أبي الزبير ، عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أغلقوا الباب ، وأوكوا السقاء ، وأكفئوا الإناء أو خمروا الإناء ، وأطفئوا المصباح ؛ فإن الشيطان لا يفتح غلقا ، ولا يحل وكاء ، ولا يكشف إناء . وإن الفويسقة تضرم على الناس بيوتهم أو بيتهم .
[ ص: 117 ] قال أبو جعفر : فاحتمل أن تكون التسمية على الطعام عند وضعه من واضعه أو عند تغطيته بما يغطى به هي التسمية المانعة للشيطان منه بعد ذلك أبدا .
فوجدناه - صلى الله عليه وسلم - قد روي عنه في هذا الحديث الذي رويناه في صدر هذا الباب قوله : إن الشيطان يستحل طعام القوم إذا لم يذكروا اسم الله عليه عند أكلهم إياه ، فعقلنا بذلك أن التسمية عند تخميره أو عند إيعائه إنما تحفظه ما كان موكى أو ما كان موعى حتى يحاول أهله أكله ، فإذا حاولوا ذلك احتاجوا إلى تسمية الله .
ثم طلبنا ما الذي ينبغي لهم إذا ذهبت عنهم التسمية أن يكون منهم عند محاولتهم أكله ؟ ما الذي ينبغي أن يفعلوه حتى لا ينتفع الشيطان بما أكل منه قبل ذلك ، وحتى يكون ذلك سببا يمنعه من بقيته . ؟
1084 - فوجدنا بكار بن قتيبة قد حدثنا قال : حدثنا أبو داود الطيالسي قال : حدثنا هشام بن أبي عبد الله ، عن بديل العقيلي ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن أم كلثوم ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل طعاما في ناس من أصحابه أو في بيته ، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما إنه لو ذكر اسم الله عز وجل لكفاكم ، فإذا أكل أحدكم [ ص: 118 ] فنسي أن يذكر اسم الله عز وجل ، ثم ذكر فليقل : بسم الله أوله وآخره .
قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث ما ينبغي أن يقوله عند ذكره إذا لم يكن سمى الله عز وجل عند أول أكله ، ثم وجدناه - صلى الله عليه وسلم - قد روي عنه في غير هذا الحديث ما يكون من الشيطان عند ذلك .
1085 - كما حدثنا محمد بن إبراهيم بن جناد البغدادي قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى يعني ابن سعيد ، عن جابر بن [ ص: 119 ] صبح قال : حدثني المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي قال : صحبته إلى واسط ، فكان يسمي في أول طعامه وفي آخر لقمة يقول : بسم الله أوله وآخره . فقال : إنك تسمي في أول طعامك ، ثم تقول في آخر طعامك : بسم الله عز وجل أوله وآخره ؟ فقال : أخبرك ؟ إن جدي أمية بن مخشي وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول : إن رجلا كان يأكل والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر ، فلم يسم حتى كان آخر لقمة فقال : بسم الله عز وجل أوله وآخره ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما زال الشيطان يأكل معك حتى سميت فما بقي في بطنه شيء إلا ألقاه .
1086 - وكما حدثنا ابن أبي داود قال : حدثنا المقدمي قال : حدثنا أبو معشر البراء ، قال أبو جعفر : وهو يوسف بن يزيد قال : [ ص: 120 ] حدثنا جابر بن صبح قال : حدثنا المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي وذلك حين مات الحجاج ، عن جده أبي أمه أمية بن مخشي واصطحبنا أربعة أشهر ، وكان إذا وضع طعامه سمى فأكلنا حتى إذا لم يبق إلا لقمة واحدة من غدائه أو من عشائه فقال : بسم الله عز وجل أوله وآخره حتى يأكلها .
قلت : لم يا أبا عبد الله سميت ؟ فإذا بقيت آخر لقمة قلت : بسم الله عز وجل أوله وآخره ؟ قال : أخبرك . سمعت جدي أمية بن مخشي وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجل يأكل ، فلما فرغ من آخر لقمة سمى فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو تبسم فسألناه ، فقال : سمى الله عز وجل أوله وآخره ، والذي نفسي بيده ما زال يأكل معه كأنه يعني الشيطان حتى إذا سمى ما بقي في بطنه شيء إلا ألقاه .
قال أبو جعفر : فوقفنا بذلك على أن الذي يحل بالشيطان بقول الآكل الذي لم يكن سمى في أول طعامه عند وقوفه على ذلك من نفسه بسم الله أوله وآخره . وبالله التوفيق .


