[ ص: 457 ] 713 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المراد بقول الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ) الآية ، وفي حكمها ، هل هو باق ؟ أو لحقه نسخ ؟
4546 - حدثنا علي بن معبد ، حدثنا صالح بن عبد الله الترمذي ، أخبرنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن محمد بن أبي القاسم ، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة للتجارة ، فخرج رجل من بني سهم ، فتوفي بأرض ليس بها مسلم ، فأوصى إليهما بتركته ، فدفعا بتركته إلى أهله ، وحبسا جاما من فضة مخوصا من ذهب ، فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله : ما كتمنا ولا أطلعنا ، ثم عرف الجام بمكة عند قوم من أهل مكة ، فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم ، فقام رجلان من أولياء السهمي ، فحلفا بالله : إن هذا لجام السهمي ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا ، إنا إذا لمن الظالمين ، فأخذ الجام ، وفيهم نزلت هذه الآية .
[ ص: 458 ] [ ص: 459 ] قال أبو جعفر : ومحمد بن أبي القاسم هذا كوفي ثقة يعرف بالشني ، وقد روى عنه غير ابن أبي زائدة ، منهم أبو أسامة .
4547 - وحدثنا الحسين بن الحكم الحبري ، حدثنا الحسن بن الحسين العرني ، حدثنا يحيى بن المهلب أبو كدينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله .
[ ص: 460 ] فقال قائل : فهذه آية قد أنزلها الله في كتابه ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حكمه بما أنزله عليه فيها ما قد رويته في هذا الباب ، وقد روي عن ابن عباس وهو الذي روى هذا الحديث في تمسكه بها ، وأنها عنده مما الحكم بما فيها قائم لم يلحقه نسخ
وذكر
ما قد حدثنا محمد بن عبد الرحيم الهروي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، حدثنا المغيرة بن سلمة المخزومي ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا حبيب بن أبي عمرة قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : قال ابن عباس في قوله عز وجل : أو آخران من غيركم ، قال : من غير أهل الإسلام من الكفار إذا لم تجدوا المسلمين .
وكما حدثنا أحمد بن داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا عبد الواحد يعني ابن زياد قال : حدثنا حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أو آخران من غيركم قال : من غير المسلمين [ ص: 461 ] من أهل الكتاب .
قال أبو جعفر : فهذا يدل على أنها كانت عند ابن عباس محكمة غير منسوخة .
وروي عن أبي موسى الأشعري فيها ما يدل على أن مذهبه كان فيها كمذهب ابن عباس .
كما حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني ، حدثنا عبد الرحمن بن زياد ، حدثنا شعبة ، أخبرنا المغيرة الأزرق قال : سمعت الشعبي يقول : قضى أبو موسى الأشعري بدقوقاء بهذه الآية أو آخران من غيركم .
[ ص: 462 ]
وكما حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عيسى بن يونس ، أخبرنا زكريا بن أبي زائدة ، عن عامر قال : خرج رجل من بني خثعم ، فتوفي بدقوقاء ، فلم يشهد وصيته إلا رجلان نصرانيان من أهله ، فأشهدهما على وصيته ، فقدما الكوفة فأحلفهما أبو موسى الأشعري دبر صلاة العصر في مسجد الكوفة بالله الذي لا إله إلا هو ما خانا ولا بدلا ولا كتما ، وإنها لوصيته ، ثم أجاز شهادتهما .
قال أبو جعفر : فدل ذلك على أنها كانت عنده محكمة غير منسوخة ، ولا نعلم عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خلافا لهما - يعني ابن عباس وأبا موسى - في ذلك ، والله أعلم ، ثم التابعون في ذلك قد كان أكثرهم على مثل الذي كانا عليه في ذلك .
[ ص: 463 ] فذكر ما .
حدثنا بكار بن قتيبة ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : كتب هشام بن هبيرة إلى شريح يسأله عن شهادة المشركين على المسلمين ؟ فكتب إليه أن لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية ، ولا تجوز في وصية إلا أن يكون مسافرا .
وما قد حدثنا الهروي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي ولا النصراني إلا في السفر ، ولا تجوز في السفر إلا [ ص: 464 ] في الوصية .
قال : فهذا شريح وهو قاضي الخلفاء الراشدين المهديين قد كان مذهبه فيها أيضا أنها محكمة غير منسوخة .
وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أو آخران من غيركم ، قال : من أهل الكتاب .
فدل ذلك على ما دل عليه ما قبله .
وما قد حدثنا الهروي حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة في قوله عز وجل : تحبسونهما من بعد الصلاة ، قال : هي صلاة العصر ، قال : [ ص: 465 ] وقال معمر : قال قتادة مثله .
وما قد حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا إبراهيم بن الحجاج ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن محمد قال : سألت عبيدة عنها ، فقال : من غير أهل الملة .
فدل ذلك أيضا على مثل ما قد دل عليه ما قبله .
وما قد حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا الفريابي ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت أن يموت المسلم ، فيحضر موته مسلمان أو كافران ، ولا [ ص: 466 ] يحضر غير اثنين منهم ، فإن رضي ورثته بما غلبا عنه من تركته فذلك ، ويحلفان : إنهما صادقان ، فإن عثر بلطخ وجد ، أو لبس ، أو تشبيه ، حلف الاثنان للأقربين من الورثة ، فاستحقا ، وأبطلا أيمان الشاهدين .
فدل ذلك أنها كانت عند مجاهد كما ذكرناها على ما كانت عليه عند غيره .
وما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا هشيم ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال المغيرة : وأخبرني من سمع سعيد بن جبير : أو آخران من غيركم ، قالا : من غير دينكم .
[ ص: 467 ]
وما قد حدثنا محمد ، حدثنا حجاج ، حدثنا أبو هلال الراسبي ، عن محمد بن سيرين مثله .
فدل ذلك أنها كانت عند إبراهيم ، وسعيد بن جبير ، وابن سيرين كذلك أيضا .
فكان جوابنا له في ذلك أن الذي ذكره كما ذكره ، وأن القول فيه هو القول في هذه الآثار ، وقد قال به من فقهاء الأمصار ابن أبي ليلى .
كما حدثنا جعفر بن أحمد بن الوليد ، حدثنا بشر بن الوليد قال سمعت أبا يوسف يقول : وكان ابن أبي ليلى يقول في ذلك ، فذكر مثل القول الذي ذكرناه عن من تقدم في هذا الباب .
وقال به الأوزاعي
كما أجازه لنا محمد بن سنان ، عن محمود بن خالد ، عن عمر بن عبد الواحد قال : سمعت الأوزاعي يقول في رجل مسلم مات في [ ص: 468 ] قرية ليس فيها مسلمون ، فأوصى ، قال : يغسلونه ويدفنونه ، وتجوز شهادتهم ، يعني على وصيته .
وقال به الثوري أيضا .
كما حدثنا القاسم بن عبد الرحمن الجزري ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب الدعلجي ، عن محمد بن علي بن أبي خداش ، عن المعافى بن عمران قال : وسئل - يعني الثوري - عن شهادة أهل الذمة في السفر ، هل يعمل بذلك اليوم ؟ فذكر عن سليمان ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي ولا النصراني إلا في وصية ، ولا تجوز في وصية إلا في السفر ، قال سفيان : حيث لا يوجد مسلم ، قيل لسفيان : أيؤخذ بها ؟ أو نحو ذلك ، فقال : قد عمل بها أبو موسى .
فإن قال قائل : قد روي عن الحسن ما يخالف أقوال هؤلاء الذين ذكرت .
[ ص: 469 ]
فذكر ما قد حدثنا الهروي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا روح ، أخبرنا عوف ، عن الحسن في قوله : اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ، قال : من غير أهل قبيلتكم ، كلهم من أهل الصلاة ، ألا تراه يقول : تحبسونهما من بعد الصلاة ؟
فكان جوابنا له في ذلك أنا لا ندفع أن يكون أهل العلم قد اختلفوا في ذلك ، وكيف ندفع أن يكونوا اختلفوا فيه ، وأبو حنيفة في أصحابه ، ومالك في أصحابه ، والشافعي في أصحابه يذهبون إلى أنها بخلاف ما هي عليه ممن قد ذكرنا ؟ فمنهم من يذهب إلى أنها منسوخة بقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم ، وهذا مما لا يقطع فيه على المخالف بقيام الحجة عليه بالنسخ لما قد أنزله الله في كتابه ، وعمل به رسوله ، وعمل به من عمل به من أصحابه ، ولا يجوز أن ينسخ ما قد أجمع على ثبوته إلا لقيام الحجة بما يوجب ذلك فيه .
فأما ما قد ذكرناه مما يستدل به الحسن من قول الله : تحبسونهما من بعد الصلاة ما قد دل على أنهما من أهل الصلاة ، فإن ذلك مما لا دليل عندنا فيه ، وإنما ذلك عند كثير من أهل العلم على أنه [ ص: 470 ] قصد بذلك إلى الوقت الذي يعظمه أهل الأديان جميعا وهو ما بعد صلاة العصر ويتوقونه ويخافون نزول العقوبة بهم عند المعصية فيه ، وقد ذكرنا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم ; رجل حلف بعد العصر على سلعة أنه أعطي بها كذا وكذا كاذبا " ، وقد ذكرنا ذلك بإسناده فيما تقدم منا في كتابنا هذا ، فإذا كان هذا الاختلاف في هذا كما قد ذكرنا ، بقي حكم الآية على ما كان عليه حتى يكون مثله مما يوجب نسخها ، وقد كان الزهري وزيد بن أسلم يذهبان إلى أنها مما قد نسخ العمل به .
كما قد حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، ثم ذكر في اختلاف من ذكره من فقهاء أهل المدينة في ذلك ما قد ذكره فيه ، وقال بعقب ذلك : ولا تجوز شهادة كافر على أحد من المسلمين في شيء من الأموال في حضر ولا سفر .
وكما قد حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن [ ص: 471 ] عياش ، عن زيد بن أسلم في هذه الآية : شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت الآية ، قال : ذلك كان في رجل توفي ، وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك في أول الإسلام والأرض حرب ، والناس كفار إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة ، وكان الناس يتوارثون بالوصية ، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض ، وعمل بها المسلمون .
قال أبو جعفر : وليس في هذا إلى الآن ما يوجب نسخ هذه الآية ، والله الموفق للصواب .


